المثقف الوطني بين مناعة المجتمع وألم المعرفة

بقلم/ محمد جبريل العرفي
المثقف الوطني ليس من يختزن معلومات غير نافعة، كأحداث الكرة، أو أخبار الفنانين، أو روايات الخيال، بل هو المهتم بهموم وطنه، متبنّيًا رؤية مشروع وطني.
يصنع المثقف الوطني من المعرفة مناعةً فكرية وأخلاقية للمجتمع، فكما يحتاج الجسد إلى جهاز مناعي يحميه من الأمراض، يحتاج المجتمع إلى مناعة ترفع منسوب الإدراك، لتفكيك الدعاية السياسية المعادية، ورفض التعايش مع الفساد والتبعية، والتمسك بالقيم الأصيلة في وجه التشويه.
المناعة تنتج بالمواجهة لأعداء الخارج وانحرافات الداخل، وبالربط بين السيادة السياسية والسيادة الثقافية، ومواجهة النهب، والخطابات الديماغوجية، والظلم الاجتماعي، والتكفير، والتديّن السطحي، والعمالة والانتماءات غير الوطنية، وغيرها.
هذا التحصين لا يأتي فقط بالشعارات، أو بالتحليل، أو بالتنظير، بل بالتنوير، والنقد، والتعليم، والمواجهة السلمية مع البُنى المشوِّهة.
المثقف الوطني لا يتعامل مع مجتمعه بفوقية أو من موقع الواعظ، بل من موقع الشراكة مع الناس؛ يرى ما لا يرونه، ويحبهم رغم عنادهم، لا كخصمٍ لشعبه، بل كحارسٍ على مستقبله، فيؤدي رسالته كمواطنٍ مسؤول يؤمن أن الثقافة مقاومة ونهوض جماعي، عبر نشر الوعي، وتفكيك الخطابات المزيّفة، وتعزيز ثقافة الحوار، وخلق عقل جمعي مقاوم، لا يستهين بالمخاطر، ولا ينجرّ إلى الصراعات غير الواجبة.
كل مشروع يرتبط بالخارج يفقد طهارته الوطنية واستقلاليته، كما أن المثقف الموظّف، المسكون بإرضاء المتنفذين، يفقد استقلاله، والاستقلال لا يعني العداء مع الدولة أو المجتمع، بل يعني أن يكون المثقف وفيًّا للحقيقة، لا (للسلطة، أو المال، أو الأيديولوجيا).
فهو يقف دومًا مع المشروع الوطني: (الأمن، الحرية، النزاهة، العدالة الاجتماعية، السيادة الوطنية).
المثقف الوطني يتبنّى ويدعم مشروعًا وطنيًا، ولا يُشخصِن المواقف، حتى لو وجد نفسه يُمارس حبًا من طرف واحد، فأول معركة يخوضها المثقف هي مع نفسه، كي لا يسقط في الإغراء، أو الخوف، أو التبعية، وأن يبقى حرًّا، صادقًا، شجاعًا، يربط مصيره بمصير الناس، لا برضا السلطة أو بجمع الثروة.
فالمثقف الذي يُخضع قلمه أو صوته للمصالح الشخصية أو الحسابات السياسية، يفقد أهليته للحديث باسم الوطن.
المثقف الوطني يبني خطابه من تراب بلده، وذاكرة شعبه، ويحتكم لضميره وعقله وولائه لوطنه، ويحافظ على مسافة نقدية تتيح له قول الحقيقة، دون أن يستعدي أحدًا.
الحاجة أصبحت ماسّة لينتظم كل المؤمنين؛ بأن مستقبل الوطن لا يُبنى فقط بالقوة المادية، بل أيضًا بالقلم الحر، والعقل المبدع، والرأي الناصح، لينتظموا في جبهة تحالف فكري ووطني، تضم كتّابًا، وأكاديميين، وفنانين، وناشطين، ومعلّمين، وإعلاميين، ومبدعين… وغيرهم، تتبنّى مشروعًا ثقافيًا وطنيًا، يتجاوز الانقسامات، ويركّز على بناء الوعي، ويقدّم خطابًا عقلانيًا، نقديًّا، مقاومًا للاستلاب والتعصّب، متحرّرًا من الشعبوية أو التبعية، يربط بين الحرية والعدالة والانتماء، وبين الماضي والواقع والمستقبل.
المثقف الوطني يعاني من حساسية تجاه الأخطار المحدقة بمستقبل وطنه: كالخلل في الخطط، أو التزييف في الخطاب، أو التبعية في القرار السياسي، فهو حين يرى وطنه يتفتّت، أو يُختزل في مشاريع عدمية، أو يُستباح من الخارج، أو يُنهب، يدرك حجم التناقض بين ما يجب أن يكون وما هو كائن فعليًا.
وهنا ينشأ عنده اصطدام بين المعرفة والواقع، ويزداد ذلك بشعوره بالعجز في غياب مؤسسات تناقش أفكاره، فيصبح الوعي وجعًا، والإدراك عبئًا نفسيًا وأخلاقيًا، فالحياد خيانة، والسكوت جريمة في حق العقل والناس والتاريخ.
المثقف الوطني الذي يرى فساد السلطة، وتشوه الوعي العام، وتهميش الرؤية الوطنية، يعاني من تناقض داخلي بين ما يدركه من مخاطر، وما يراه من استسلام تجاه التبعية والظلم والفساد.
إن وعيه يمنعه من الاندماج في مشهد مشوَّه دون أن يشعر بالغربة أو العار، فيعيش ألم المعرفة، وفاءً لفكره، وولاءً لوطنه.
ولذلك أحيانًا يُساء فهمه، ويُتّهم بالتشاؤم أو النخبوية، أو يُصنَّف معارضًا أو خائنًا، مع أن المجتمعات لا تُبنى إلا بالصدق، ولا تنهض إلا بالوعي، ولا تُحمى إلا بمناعة ثقافية متينة.
الحقيقة غالبًا ما تكون مؤلمة، لأنها تكشف عن عيوب ونواقص في المجتمع أو في الذات. إنه ألم يدفع إلى مواجهة الأفكار غير البنّاءة، حتى لو كانت تلك الأفكار مريحة للبعض أو مقبولة شعبيًا.
ليبيا اليوم وطنٌ مأزوم، لا تحتاج إلى المزيد من الخطابات الجوفاء، بل إلى مثقف وطني صادق، يرى البعيد، ويستشرف المستقبل، ويتحمّل تبعات الألم، ويسهم في بناء الأمل.
من آليات المثقف للمواجهة ورفع المناعة ما يلي:
- رفع مستوى الوعي: من خلال نشر المعرفة الصحيحة، وتفنيد الشائعات، وتقديم تحليلات عميقة للقضايا الراهنة.
- تعزيز القيم الإيجابية: مثل التسامح، والعدالة، والنزاهة، والمواطنة الصالحة، واحترام التنوع، لإجهاض محاولات زعزعة استقرار المجتمع.
- مدّ جسور التواصل وتشجيع الحوار البنّاء: لتقريب وجهات النظر، مما يقلّل من الصراعات، ويعزّز اللحمة الوطنية، ويمنع تفكيك النسيج الاجتماعي.
- تحليل التحديات التي تواجه المجتمع داخليًا وخارجيًا: ولعب دور استباقي في التنبيه إلى المخاطر المحتملة، واقتراح سبل مواجهتها.
- توظيف المعرفة في خدمة قضايا الوطن: فلا يمارس النقد الهدّام، ولا يغرق في التمجيد الأعمى، ولا يتبنّى الحلول الوهمية، بل يكون نقده بهدف الإصلاح والتطوير، ومواجهة مخططات الأعداء والخصوم.
وأخيرًا:
إن الاستثمار في المثقفين الوطنيين ودعمهم هو استثمار في مستقبل الأوطان، فهم بوصلة المجتمع نحو المستقبل، والمعزّزون لمناعته ضد مؤامرات أعدائه.