مقالات الرأي

هنا القاهرة من دمشق.. صدى الوجدان العربي في زمن التحدي

بقلم/ فرج بوخروبة

أمتنا العربية، يا من حملت على عاتقها راية الحضارة لقرون، ويا من تنامت في وجدانها أسمى معاني التضامن والتآزر؛ في ليل دامس من ليالي نوفمبر عام 1956، انطلقت صرخة مدوية من قلب الشام، اخترقت حجب الظلام والعدوان، لتصل إلى كلّ قلب عربي، حاملة معها رسالة لم تكن مجرد بث إذاعي، بل كانت نبضًا حيًا لوجدان أمة رفضت أن تسقط، وارتضت أن تنتفض. تلك الصرخة، “هنا القاهرة من دمشق!”، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت ميثاقًا، ووعدًا، وشهادة على أننا، عندما نريد، نستطيع أن نكون جسدًا واحدًا، لا تلوينا رياح الفرقة، ولا تضعفنا مكائد الأعداء. إنها دعوة للعودة إلى الذات، إلى جوهرنا الذي لطالما كان منارة الأمم.

عندما كانت النخوة عنوانًا والمصير واحدًا: تأملوا معي تلك اللحظة التاريخية، لحظة فارقة في سجل كرامتنا العربية. كانت مصر، قلب العروبة النابض، ومهد الحضارات، ترزح تحت وطأة عدوان ثلاثي غاشم لم يفرّق بين البشر والحجر. قصفٌ لا يرحم استهدف بنيتها التحتية، وأيادٍ أجنبية تحاول أن تمزق سيادتها، وتخنق صوتها الحرّ. محطات الإذاعة المصرية الرئيسية، التي كانت منارة للوعي القومي ومصدرًا للأمل في فترة ما بعد الاستقلال، قد توقفت عن البث بفعل القصف المدمر. في تلك اللحظة الحرجة، عندما خيّم الصمت على القاهرة، وتوقفت إشارات بثها، كان العالم يترقب، وتشتتت القلوب العربية خوفًا وقلقًا. ولكن، من قلب الشام، من دمشق العروبة، ارتفع صوت المذيع السوري عبد الهادي بكار، ليس ليتكلم عن نفسه أو عن سوريا وحدها، بل ليصدح باسم القاهرة، باسم مصر، باسم كلّ عربي يؤمن بوحدة المصير.

لقد تحولت إذاعة دمشق إلى منبر للقاهرة، تبثّ خطابات الزعيم جمال عبد الناصر الملهمة، وتُطمئن الجماهير التي كانت تتابع الأنباء بقلوب واجفة، وتعلن للعالم أجمع أن مصر ليست وحدها في مواجهة العدوان. هذا الفعل لم يكن مجرد لفتة دبلوماسية أو إجراء روتيني؛ بل كان تجسيدًا حيًا لنخوة عربية أصيلة، ولإدراك عميق بأن الجرح الذي يصيب عضوًا في الجسد العربي، يجب أن يؤلم الجسد كله، وأن الدفاع عن أي جزء من هذا الجسد هو دفاع عن الكل. كانت تلك اللحظة بمثابة إعلان للعالم أجمع أن الروح العربية لا تقبل الهزيمة، وأنها قادرة على التوحد والنهوض في أحلك الظروف.

لم تكن تلك مجرد حادثة عابرة أو ومضة تضامن لحظية؛ بل كانت حلقة ذهبية في سلسلة طويلة من التضامن العربي الذي بلغ ذروته في تلك الحقبة التاريخية. لقد كانت فترة ما بعد الاستقلال تشهد تبلور الوعي القومي، وتنامي الحلم بالوحدة العربية الشاملة التي تجسد تطلعات الشعوب للخلاص من التجزئة والتبعية. كانت الشعوب العربية ترى في بعضها البعض امتدادًا لذاتها، وتشعر بمسؤولية مشتركة تجاه قضايا الأمة الكبرى. من فلسطين التي كانت ولا تزال جرحًا غائرًا في جسد الأمة، إلى الجزائر التي كانت تناضل بدمائها من أجل حريتها واستقلالها، كانت كلّ قضية عربية تجد صدى لها في كلّ عاصمة عربية، وفي كلّ قرية ومدينة، وفي كلّ قلب يؤمن بكرامة العروبة. كانت تلك المرحلة زاخرة بمشاعر التضامن الشعبي والرسمي، حيث كانت المظاهرات تخرج في كل عاصمة عربية تنديدًا بالعدوان ودعمًا للمقاومة، وكانت المساعدات تجمع، والأصوات تتحد في منابر الأمم المتحدة وفي كل محفل دولي.

ما الذي تبدّل؟ وأين ذهبت تلك الروح؟ اليوم، ونحن ننظر إلى واقعنا العربي المعاصر، تختلط فينا المشاعر بين الحزن والأمل. بين الأمس الذي شهد تلك اللحمة القوية واليوم الذي نعيشه، تبدو الفجوة عميقة، وكأننا عبرنا قرونًا من الزمن لا عقودًا قليلة. هل تغيرت معادن الرجال؟ هل تبدل وجه الأرض وأصبحت أراضينا غير صالحة للوحدة؟ أم أننا فقدنا البوصلة، وابتعدنا عن ذلك الوجدان الذي كان يوحّدنا ويجعلنا قوة يُحسب لها ألف حساب؟

نرى اليوم حدودًا مصطنعة تزداد رسوخًا وقوة، لا تفصل بين الدول فحسب، بل تزرع بذور الشقاق بين الشعوب التي هي بالأصل أبناء لأمة واحدة. نرى دولًا تتنازع على قضايا فرعية صغيرة وهامشية، بينما القضايا الجوهرية التي تمسّ وجودنا ومستقبل أجيالنا تُهمَل أو تُترك للغير ليقرر مصيرها. نرى انقسامات سياسية ومذهبية تزرع الشقاق بين أبناء الأمة الواحدة، وتدخلات خارجية سافرة تفتّت ما تبقى من وحدتنا وتستنزف مواردنا. أصبحنا نرى أقطارًا عربية تتعرض للأزمات والكوارث، من حروب أهلية إلى أزمات اقتصادية، بينما الرد العربي عليها يأتي خافتًا، أو متأخرًا، أو غارقًا في حسابات ضيقة لا ترقى إلى مستوى التحدي، بل تزيد من معاناتها.

هل يعقل أن تتوه تلك الروح التي دفعت دمشق لتكون القاهرة؟ هل يعقل أن ننسى أن قوتنا كانت تكمن في وحدتنا، وأن ضعفنا يبدأ من فرقتنا؟ هل ترهلت عضلاتنا، وهانت إرادتنا، حتى أصبحنا ننظر إلى مصائرنا كجزر منعزلة، كل جزيرة تهتم بنفسها، وكأنها بمعزل عن المد والجزر الذي يضرب المنطقة بأسرها؟ إن هذا الترهل ليس جسديًا بقدر ما هو ترهل في الإرادة، وضمور في الرؤية، وتراجع في الوعي القومي. لقد سمحنا للفتن بالانتشار، وللأعداء بالاختراق، وللمصالح الضيقة بأن تطغى على المطلوب الأسمى، وهو مصلحة الأمة جمعاء.

دعوة لإحياء الوجدان: إن رسالتي اليوم، يا أمتنا العربية المترهلة، ليست رثاءً على الماضي الجميل الذي ولّى، بل هي دعوة صادقة لإحياء ذلك الوجدان، لتجديد العهد، ولإعادة إيقاظ روح التضامن الكامنة فينا. دعوة لنتذكر أننا أمة واحدة، وأن دماءنا التي روت تراب الأوطان، وتاريخنا المشرق، ولغتنا الجامعة، ومصيرنا المشترك، كلّها تلتئم في بوتقة واحدة، لا يمكن فصلها أو تجزئتها.

دعونا نُحي روح التضامن الحقيقية التي لا تقتصر على التصريحات الإعلامية التي غالبًا ما تكون للاستهلاك المحلي أو الدولي، بل تتجسد في الأفعال الملموسة، في المبادرات الشجاعة، وفي المواقف الموحدة. لننظر إلى أزمات بعضنا البعض بعين من يرى فيها أزمته الخاصة، وأن الحل يكمن في التكاتف لا في التباعد.

لندعم بعضنا البعض، ليس من باب المصلحة الضيقة أو المردود الاقتصادي، بل من منطلق الإيمان الراسخ بأن قوتنا تكمن في مجموعنا، وأن التحديات التي تواجه أحدنا هي تحديات تواجهنا جميعًا.إن العودة إلى ذلك الوجدان لا تعني بالضرورة محو الحدود الجغرافية أو إلغاء الخصوصيات الثقافية لكل قطر عربي، بل تعني بناء جسور التفاهم والتعاون الحقيقي والفعّال، وتعزيز المشترك الذي يوحدنا، وتجاوز الخلافات التي لا تخدم إلا أعداءنا الذين يتربصون بنا ويستغلون ضعفنا. تعني أن نرفع صوت الحق والعدل معًا في المحافل الدولية، وأن ندافع عن قضايانا العادلة، وعلى رأسها قضية فلسطين، بقلب واحد ويد واحدة، مستلهمين القوة من وحدتنا.

فلنستلهم من عبارة “هنا القاهرة من دمشق” دروسًا لا تُنسى في النخوة والشجاعة، في التضحية والإيثار، وفي إعلاء مصلحة الأمة فوق كل اعتبار. لنعيد إلى وجداننا العربي بريقه، ونجعله منارة تهتدي بها الأجيال القادمة في دروب الحياة المليئة بالتحديات.

فليستمر صوت القاهرة من دمشق، وليتردد صداه في كلّ عاصمة عربية، من الرباط إلى المنامة، ومن بغداد إلى صنعاء، معلنًا أننا أمة لا تموت، وأن إرادتنا لا تلين، وأننا قادرون على استعادة مجدنا إذا ما عدنا إلى أنفسنا، وإلى وحدتنا، وإلى ذلك الوجدان الذي كان يومًا عنوانًا لشرفنا وعزتنا.أليست الوحدة خيرًا لنا من التشتت، والعزّة خيرٌ لنا من الترهل؟ متى نعي أن قوة الآخرين تستمد من ضعفنا وتفرقنا، وأننا متى اجتمعنا، قهرنا الصعاب، وبنينا مستقبلًا يليق بتاريخنا وعظيم تطلعاتنا؟

زر الذهاب إلى الأعلى