نحو وعي جديد.. مراجعة الماضي وصناعة الغد

بقلم/ المهدي الفهري
عند التعاطي مع الملفات الكبرى، لاسيما تلك التي تمس مصير الأوطان، فإننا بحاجة ماسة إلى مراجعة الماضي بعين نافذة وتحديد أهداف المستقبل برؤية واضحة ومسؤولة، ويتطلب ذلك اعتماد دراسات دقيقة ومقاربات موضوعية تخضع للتمحيص والنقد الذاتي من أجل استيعاب دروس الماضي وتوظيفها بما يخدم خياراتنا الجديدة التي لا بد أن تكون بمستوى التحديات والمتغيرات من حولنا، فانتقالنا من حال إلى آخر لا يحدث عشوائيًا، بل نتيجة لتراكم من التجارب والخبرات ومدى قدرتنا على توظيفها في مواجهة أزماتنا الحالية والتعامل مع مشكلاتنا اللاحقة.
إن التعثر قد يسمح به لمرة إذا كان منطلقًا للتصحيح والتعلم، لكنه لا يمكن أن يُغتفر حين يتكرر بلا وعي أو مراجعة ويتحول إلى أسلوب ومنهج، فالحياة سلسلة من الانتقالات من مرحلة إلى مرحلة ومن حاجة إلى أخرى، وهذه الحركية تفرض علينا أن نُحسن الاختيار، وأن نفرق بوعي بين الممكن والمستحيل، وبين ما هو آتٍ وحتمي وما هو ظرفي وعابر، ولقد علمتنا الأزمات برغم قسوتها أن النهوض ممكن، ولكنه ينطلق من الوعي ويبدأ من الكلمة، وأن التغيير قادم، وعلينا البحث عنه في العقول المفكرة، ففي أعماق المعاناة تكمن أحيانًا بذور الإبداع، والتاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد أن المحن كانت في كثير من الأحيان مقدمة لانبعاث حضاري، وأن الحروب رغم مآسيها أفرزت أشكالًا من الازدهار، والمهم هو أن نتمكن من إقناع أنفسنا بوجود جانب إيجابي فيما مررنا به مهما كان الثمن باهظًا والأثر عميقًا.
ولا شك أن ما نطرحه هنا يشكل دعوة صريحة للبحث عن الحقيقة وطريقة التفكير التي تنقلنا من الألم إلى الأمل، ومن الأزمة إلى الفرصة، وتحويل التراجع إلى ازدهار، فمعركتنا معركة صناعة الإنسان والتأسيس لوعي نهضوي والشعور بامتلاك القدرة على الإضافة، وإذا استطعنا أن نركز على هذه الفرضيات وأن نجعلها معنا في كل تأمل وتحليل، فإننا نكون بذلك قد قطعنا شوطًا حقيقيًّا نحو الأمام، فالثقافة ليست تكديسًا للمعرفة وتجميعًا للمعلومات بقدر ما هي حضور دائم للذهن الناقد ورؤية ثاقبة تسهم في تطبيق فلسفة الثقافة على الواقع من خلال الاهتمام بالعقول المفكرة والذكية التي لديها القدرة على ترجمة الأفكار إلى مكاسب وإنجازات تنخرط في خدمة مناحي الحياة المختلفة وخاصة الفكرية والثقافية والاجتماعية وبما يعيد الثقة للانطلاق من جديد وتعويض ما فات مع سابق معرفتنا بأن النخب الفكرية والأدمغة الذكية لا تبحث عن مناصب سامية، بل تستغل الموارد البشرية في البحث والتجربة وتسهم في صنع مستقبل البلاد وكيفية نقلها إلى وضع أفضل وتقوم بإعادة شحن الذاكرة للناس لترفع الهمم وتقود الجموع نحو الأمام وتدعو الجميع نحو الالتفاف حول أولويات البلاد ومعالجة أزماتها من خلال القيام بدور الرقيب الاجتماعي الذي ينبه ويؤشر إلى مكامن الخطأ والخلل ويدعو إلى وضع الحلول الناجعة والكفيلة بتصويب الانحراف وتحقيق الأهداف المرجوة والمنشودة التي يتطلع إليها الوطن.