في مرمى ما بعد “سايكس بيكو”!

بقلم/ مصطفى الزائدي
لقاء إسطنبول الثلاثي الجمعة الماضي لا يذكرنا فقط باتفاقية بيع الأتراك ليبيا لإيطاليا، لكنه حلقة من حلقات التدخل الأجنبي في الأزمة الليبية، التي افتعلها ويديرها إلى الآن. النتيجة المؤكدة تفيد بأنه مهما كان حجم ونوعية اللقاءات والزيارات والمؤتمرات حولها فالحال باقية على ما هي عليه، ملخصها عبث شديد وفوضى عارمة وتقسيم بحكم الأمر الواقع وسيطرة مجموعات مسلحة متناحرة على الدولة، وتوتر مستدام وصراعات أو احتكاكات مسلحة على رأي رئيس الحكومة! محدودة أو واسعة تنشب دون إنذارات مسبقة!
السلطة الرسمية المشكلة من الخارج والمعترف بها، لا تمتلك من الصلاحية إلا تنفيذ متطلبات الأمر الواقع المفروض على الأرض بالسلاح، ورغبات الدول التي تدخلت في ليبيا وأسقطت نظامها الوطني!
التسويق مستمر لضرورة التوافق الدولي والمحلي وهو أمر مستحيل! فمن الأساس لم يتحدد على ماذا التوافق، وما أطرافه، وكيف يمكن تحقيقه وإدارته، في ظل تناقض كبير في مصالح وأهداف الدول الغربية التي تدخلت في ليبيا ومن خلفها الدول الإقليمية المتصارعة على الكعكة الليبية!
وتناقض الأدوات الليبية التي تعمل لصالحها والتي لا تمتلك مشروعًا خاصًا بها ولم تحدد أهدافها ومطالبها بوضوح.
قصة التوافق لا تعدو كونها خطابات إنشائية عامة بلا مضامين حقيقية، والنتيجة بعد 15 عامًا لم يتحقق إلا مزيد تعقيد الأزمة وصعوبة حلحلتها وانتشار الظواهر المصاحبة لها المتمثلة في الجريمة والفوضى والفساد وانهيار المنظومات الاجتماعية وتوقف التنمية كليًا.
لم يطرح أي طرف مبادرة واضحة حول معنى التوافق، وما الموضوعات التي ينبغي التوافق حولها وأساليب معالجتها وأولويات طرحها. كل ما في الأمر حديث أجوف عن دولة واحدة ومؤسسات موحدة، وفي التفاصيل ينصب الحديث على تقاسم السلطة بين الأطراف المهيمنة، رغم أن كل طرف يعمل بما استطاع على الاستحواذ على السلطة لمصلحته، ولم يظهر أي استعداد طيلة 15 عامًا لمشاركة خصومه من نفس المنظومة في إدارة الدولة، فما بالك أي حديث عن اشتراك كل الأطراف الليبية الأخرى بما فيها تلك التي تمثل القوة الأساسية للشعب الليبي التي هي خارج المشهد كليًا منذ 2011. وهذا يؤكد أن التوافق مجرد وهم وخداع لفظي لن يكون له تأثير على الواقع ولا يمكن أن يكون حلًا يركن إليه.
لمعالجة أزمات الدول سبيلان لا ثالث لهما، الأول اتباع آليات مقبولة تمكّن الشعب من المساهمة في حل الأزمة سواء عبر انتخابات عامة أو محدودة، أو آليات أخرى يتفق عليها الشعب لإعادة تأسيس الدولة باختيار مؤتمر تأسيسي يعكس وجهات نظر أغلبية الشعب.
أمّا السبيل الثاني فهو حل مكلف وغير مضمون النتائج بأن يتمكن طرف ما من حسم الصراع لصالحه بالقوة، أي أن تنشب حرب تضع حدًا لحالة الفوضى المنتشرة في البلاد وفرض سلطة مركزية واحدة، وأيًا كانت تقييماتنا للمنتصر فالنتيجة ستكون دولة واحدة وربما تنجح في إعادة تحريك عجلة التنمية وتسهم في تطوير حياة الناس إلى الأفضل.
وطالما أن المطروح لا يتطرق إلى أحد الأسلوبين فكل ما يجري هو تدوير للأزمة وإطالة لها مما يؤدي إلى إجهاد الشعب وإحباط النخب الوطنية وعجز الناس عن تأمين سبل الحياة مما يجبرهم على القبول بأي وضع ويقلل من اهتمامهم بتكوين دولة قوية تحفظ لهم حقوقهم وتؤمن للأجيال القادمة مستقبلًا أفضل.
ما نراه من اجتماعات وزيارات للسفراء والمبعوثين مجرد فعاليات تتعلق بمصالح الدول المتداخلة.
لا أدعو بهذا القول إلى الإحباط والتشاؤم ولا أريد أن أضخم المخاطر التي تواجه الوطن والشعب كما كنت قد أسلفت عدة مرات، خاصة فيما يتعلق بمخططات التقسيم وتوطين المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا، وأضيفت أخيرًا فكرة توطين الذين قد يُهجرون قسرًا من غزة!
وأيًا كانت المعطيات التي تؤكد هذه المخاطر أو تقلل منها فإنها موضوع مطروح بقوة بالنظر إلى مساحة ليبيا الجغرافية وعدد سكانها وحجم ثرواتها وموقعها الاستراتيجي على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، ما يجعلها مطمعًا للجميع.
هذا الواقع ينبغي أن يدفعنا جديًا إلى البحث في وسائل عملية جادة وجديدة تمكن الليبيين من تقرير مصيرهم والإمساك بزمام أمرهم بعيدًا عن الخلافات والصراعات في الماضي وحوله، وأيًا كانت الاتجاهات السياسية وباستثناء العملاء الموظفين من قبل الدول الأجنبية الطامعة في ليبيا، فلا بديل اليوم عن خطة وطنية للإنقاذ، يشارك الجميع في وضعها حول مشروع وطني واضح المعالم يضمن بقاء ليبيا دولة موحدة مستقلة ويكون للشعب وحده القول الفصل فيها بعيدًا عن التداخلات الأجنبية.
في تقديري هذا متاح بالنظر إلى حالة الصراع الدولي المتزايد وإلى التغيرات الجيوسياسية التي ستنتج عن هذا الصراع.
علينا افتكاك بلادنا وضمها إلى أحضاننا نحن، وإلا سنكون مجرد قطعة شطرنج.
اليوم يتحدث الغرب علنًا عما بعد “سايكس بيكو”، وما بعده كان ينبغي أن يكون إعادة الأمر إلى وضعه الطبيعي وهو بناء دولة عربية قوية وتكتل إسلامي مؤثر. لكن لأن هذا أصبح من الأحلام، فليكن مطلبنا على الأقل بقاء الحال على ما هو عليه، لأنه بالنسبة لهم ما بعد “سايكس بيكو” يعني تقسيم المقسم وتفتيت المفتت!