مقالات الرأي

دعاة تقوى وخونة مواقف

بقلم/ عفاف الفرجاني

استوقفني مقطع للمفكر الدكتور نايف بن نهار الشمري، الذي يعد من أبرز المفكرين العرب المعاصرين. الشمري يمزج بين الفقه الإسلامي والمعرفة السياسية الغربية، أجده يركز على بناء خطاب نقدي للواقع المعاصر. ولأنه أثار جدلًا واسعًا عربيًا، وتلقى دعمًا من جمهور كبير بحثًا عن فكر مستقل غير منضوٍ تحت الراية الرسمية، مما جعله علامة فكرية بارزة في المشهد العربي، واعتبره بعض الحكام والشخصيات العامة محرضًا للشعوب على حكوماتهم. سمعته يتكلم عن مبدأ الحياد الذي ينتهجه البعض في قضايا وطنية وعروبية مثل القضية الفلسطينية، حيث جاء رده على اعتقال الطبيب الفلسطيني حسام أبو صفية، الذي كان يعالج مصابي غزة من القصف الإسرائيلي وأودع سجون العدو الصهيوني دون أن تتدخل الحكومات العربية والشخصيات السياسية لإطلاق سراحه.

اعتبر نايف أن من يطالبونه بالحياد في قضية الطبيب كونه أكاديميًا وليس عليه الخوض في هكذا قضايا، لا يحملون عقيدة دينية صحيحة، وأنهم فاقدون للبوصلة الدينية والأخلاقية، معتبرًا نفسه مسلمًا صالحًا قبل أن يكون أكاديميًا، حيث الدفاع عن الحق من أولويات أخلاقه كمسلم، والحياد جريمة في مثل هذه الحالة.

قادني هذا إلى تلك الإمبراطوريات الملكية والحكومات باهظة السلطة وإمارات الترفّع، أين هم من بوصلة الدين في أداء سياستهم حيال هذا النوع من القضايا، أم أنهم يختزلون الدين في طقوس موسمية وزيارات شكلية، فتتحول الوفود الرسمية إلى حجاج سياسيين، وفي المناسبات الدينية ترفع الشعارات، بينما يغيب صوتها عند كل موقف حقيقي يتطلب نصرة مظلوم أو موقفًا أخلاقيًا؟

اليوم كل الخطب السياسية تتحدث عن القيم والرقي والأخلاق، يهتفون بنصرة القدس في المؤتمرات، لكنهم يعجزون عن اتخاذ موقف إنساني واحد بعيدًا حتى عن السياسة والخلاف الراهن بين فلسطين والصهاينة، موقف إنساني تجاه الأسرى من أبناء الأمة من الأطباء الفلسطينيين، الذين يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي يعذَّبون ويُهانون لا لذنب سوى أنهم مارسوا إنسانيتهم في أرض تنزف.

الدين كما يفهمه بعض الحكام والأمراء هو مجرد لافتة تُرفع، وسبحة تُعلَّق على إصبع اليد تحمل حبات اللؤلؤ والألماس، حضورها يلغي حاملها، متناسين أن الدين موقف، وعدل، ومجاهرة بالحق.

إن بعض الأنظمة اليوم تجد في هذه الطقوس مخرجًا آمنًا، تضمن من خلاله شعبية عاطفية دون أن تدفع ثمن المواقف الصلبة. متناسية أن الشعوب لم تعد مغيبة، ولكنها لا تملك أن تثور.

إن صمت بعض الحكومات عن مثل هذه القضايا الإنسانية التي تمس الأمة أخلاقيًا ودينيًا، لا يعكس فقط تواطؤًا سياسيًا وحده، بل يكشف خللًا أعمق في فهم الدين نفسه.

فالمواسم الدينية لا تبرر الخذلان، والصلوات لا تمحو غياب المروءة، ولا شيء يبرر أن يُترك من يواجهون القهر وحدهم، فيما تُستنزف المنابر السياسية في الحديث عن التقوى والدعوة لفلسطين!

المنبر السياسي الذي يعجز عن رفع صوته من أجل الأطباء المعتقلين بتهم مساعدات إنسانية، على الأقل لا يُسرف في تسويق التدين الرسمي والبكاء على السجادات الإيرانية ذات الصوف الأصيل بالدعاء لأهل فلسطين، لأن الله لا يُخدع بدعاء الفخامة.

الدين ليس طقسًا، بل التزامًا. وإذا عجزت الأنظمة عن رفع صوتها من أجل الأطباء، فعلى الأقل لا تُسرف في تسويق التدين الرسمي، لأن الله لا يُخدع بالمراسيم.

إن مواقف بعض المسؤولين العرب من اعتقال الأطباء الفلسطينيين اليوم لا تندرج حتى في خانة (المواقف)، بل يمكن تسميتها (التواطؤ الاستراتيجي).

هم لا يرفعون الصوت خوفًا من زعل البيت الأبيض، ولا يخفضونه كي لا يزعجوا تل أبيب. إنه فن إدارة العمالة، حتى لو مات أطباء فلسطين جميعًا تحت التعذيب. فسيّدهم الأمريكي يراقب وفي يده عصا الجباية، وشريكهم في الكيان على كتفه المدفعية، والكراسي تستحق.

فحسام أبو صفية مجرد رقم جديد يُضاف إلى موسوعة الأرقام الفلسطينية، في زمن صارت فيه الكرامة لدى حكامنا بندًا ملغى من قيمهم.

زر الذهاب إلى الأعلى