مقالات الرأي

جدلية إلغاء الماضي بين التحرر منه والانتماء إليه 

بقلم/ محمد بوخروبة 

حين تطرح فكرة “إلغاء الماضي”، لا يكون المقصود محوه كليًا، بل غالبًا تجاوزه نفسيًا وذهنيًا، خاصة في ظل التجارب السلبية التي مر بها الإنسان أو المجتمع. إنها دعوة إلى التحرر من التعلق بما مضى، والعيش في الحاضر والمستقبل دون أن يظل الماضي كظل ثقيل يعوق الحركة.

لكن في مقابل هذا التوجه، هناك من يرى أن العودة إلى الماضي ليست نكوصًا، بل استرشادًا، وأن الانقطاع عنه خطر على هوية الإنسان والمجتمع. هكذا يظهر التوتر: بين من يرى في الماضي عبئًا يجب التحرر منه، ومن يعتبره جذرًا لا يمكن اقتلاعه دون اقتلاع الذات معه.

في لحظات التحولات الكبرى، تتصاعد أصوات القطيعة مع التاريخ، باعتباره حمولة زائدة تعوق الانطلاق. يتعزز هذا التوجه حين ينظر إلى الماضي كمرحلة من الضعف أو الانحطاط، أو حين تغلف الذاكرة الجماعية بصدمات تاريخية مؤلمة.

وأحيانًا، لا يعكس هذا الرفض إرادة حقيقية للتغيير، بقدر ما يعبر عن إحباط جماعي، أو خوف من مواجهة ما يكشفه التاريخ من تناقضات ومآسٍ وانكسارات.

لكن هذا الميل إلى “محو التاريخ” يحول الإنسان إلى كائن لحظي، لا جذور له، لا ينتج ذاته إلا استجابة لحاجات السوق واللحظة، لا لمشروع ممتد أو هوية عميقة.

ليس المقصود من الدفاع عن الماضي أن نقدسه أو نبرئه. فكما أن فيه فترات مظلمة، فيه أيضًا لحظات مشرقة من الكفاح والازدهار. ليس التاريخ العربي مثاليًا، لكنه أيضًا ليس أدنى من غيره.

وإذا كانت فرنسا وبريطانيا تفخران بتاريخهما رغم استعمارهما وقسوتهما، فلماذا يصر البعض في عالمنا العربي على التخلص من تاريخهم بالكامل، وكأنه عار لا يغتفر؟

الوعي بالتاريخ لا يعني تبريره، بل يعني قراءته نقديًا، وفهم تعقيداته، واستيعاب دروسه. لأن من لا يعي ماضيه، لا يفهم حاضره، ولا يحسن بناء مستقبله.

الإنسان كائن تاريخي. لا يمكنه أن يكون ذاته بدون ذاكرته، كما لا يمكن لأمة أن تستمر دون وعيها بتاريخها. فالتاريخ ليس مجرد سرد وقائع، بل نسيجًا من القيم والمعاني، وحوارًا مستمرًّا بين الأجيال. حين يلغى الماضي، ينقطع هذا الحوار، ويصبح الإنسان بلا مرجعية، تائهًا في الحاضر، يسهل توجيهه بأي سردية تفرض عليه.

إن محاولة محو الماضي، سواء فعليًا أم رمزيًا، ليست مجرد خيار ثقافي، بل موقفًا وجوديًّا خطيرًا، يحمل تهديدًا مباشرًا لهوية الإنسان، تمامًا كما أن فقدان الذاكرة عند الفرد يؤدي إلى التيه والضياع.

قد يقال.. انظر إلى أمريكا، أمة بلا تاريخ عريق، ومع ذلك تحكم العالم. بينما العراق، مهد الحضارات، لا يجد ما يسد رمق شعبه.

لكن هذا القول، وإن كان مثيرًا للتفكير، لا يمكن فصله عن سياقه السياسي والاقتصادي والتاريخي الحديث. فتفوق الدول اليوم لا يرتبط فقط بتاريخها، بل بقدرتها على الاستثمار في مؤسساتها، ومواردها، واستقرارها.

ومع ذلك، فإن إلغاء التاريخ لا ينتج القوة، بل ينتج كائنًا هشًا، فاقدًا للمعنى. فأمريكا ذاتها، رغم حداثة تأسيسها، تؤسس سرديتها على رموزها وتاريخها القصير، وتصنع لنفسها ماضيًا يدرس ويفخر به. التاريخ لا يعني القوة وحدها، بل الذاكرة والمعنى والهوية.

الذين يحلمون بالإبحار إلى المستقبل على جثة الماضي، سيكتشفون أن الماضي لا يموت، بل يعود بأشكال جديدة. إن الوعي لا يقوم على القطع، بل على الاعتراف والمساءلة، والتعلم المستمر.

والتاريخ، بصفته حوارًا بين ما كنا وما يمكن أن نكون، هو المرآة التي تتيح لنا أن نفهم أنفسنا، ونصوغ مشروعًا إنسانيًّا له جذور، وله مستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى