مقالات الرأي

المجالس الاجتماعية بين المشروع الوطني والاستقطاب السياسي

بقلم/ ناصر سعيد  

المجالس الاجتماعية والقبلية التي تشكلت في ليبيا بعد عام 2011 كانت رد فعل طبيعي لفراغ السلطة الناتج عن انهيار الدولة ومؤسساتها الأمنية والخدمية، وهذه المجالس كانت على مستوى مناطقي وقبلي، ثم تطورت وتنادت مجموعات منها التقت في صورة جامعة تحت مسميات مختلفة منها مؤتمرات القبائل والمدن والمجالس والأعيان والشيوخ والحكماء، حاولت لعب دور في إدارة الشؤون المحلية وحماية المصالح والخدمات في ظل الفوضى، ومع ذلك، فإن تطورها وتأثيرها واجه تحديات كبيرة، في ظل الفوضى وسقف الاحتقان المرتفع أدى إلى تفريغ مشروعات حل الأزمة والمصالحة الوطنية من محتواها وإلى تراجع دورها بشكل ملحوظ، وبعد 14 عامًا، تلاشت تلك التكتلات القبلية وضعف دورها ووهنت وبقيت بعض المكاتب تعلق فقط بتسميات مختلفة وأختام وبيانات بمناسبة أو بدون، حتى أصبحت والعدم سواء للأسف، لأسباب عدة، فقد لعب دور الزعامة والصراع على رئاسة تلك المؤتمرات دورًا كبيرًا في إضعافها وتراجعها، ما تسبب في انقسامات داخلية، وتناغمت تكتلات أخرى وتنادت على وقع مسميات الأقاليم الثلاثة، فصار لكل إقليم تجمع ومؤتمر قبلي ينسجم ورؤية ومناخ ذلك الإقليم، منه من لا يفرغ من الحديث عن التهميش وآخر يطالب بالتقسيم والثالث يخونهما!! 

لقد افتقرت المكونات الاجتماعية إلى إستراتيجية واضحة أو مشروع وطني موحد، فانحصر دورها في المطالب المحلية أو القبلية الضيقة والمحاصصة في المؤسسات والوزارات، ما أفقدها القدرة على التأثير على المستوى الوطني، حتى تحول بعضها إلى أدوات للصراع بين الأطراف السياسية والعسكرية، وأضعف مصداقيتها، واستخدمتها بعض الأطراف السياسية والمجموعات المسلحة كأداة لشرعنة أو كغطاء اجتماعي أفقدها استقلاليتها، وتحولت بعض المجالس إلى مجرد واجهة دون تمثيل حقيقي، خاصة بعد أن فشلت في تجديد خطابها أو هياكلها لمواكبة التطورات. 

المشكلة الأهم أيضًا أن المجالس الاجتماعية على مستوى القبلية أو على مستوى التكوينات العامة افتقرت عند تأسيسها إلى آلية ديمقراطية، فلم يكن هناك إجماع على تكوينها، إذ تنادى مجموعة من الأفراد بشكل عاطفي بدون شورى أو تكليف أو لقاء أو تشاور واسع مثلًا، واختارت أو انتخبت أو كلفت قيادة للمجلس أو للمؤتمر العام، وهذا تسبب في خلافات وانقسامات وأثر حتى على استمرار بعضها، وأصبحت المجالس نفسها تعكس حالة الانقسام السياسي القائم بالبلاد على المستوى الجهوى أو السياسي العام، كما أن ليبيا في العموم ليست مجتمعًا قبليًّا لهذا لا تجد فيها زعمات قبلية أو شيوخ قبائل يشار إليهم بالبنان. 

إضافة إلى ذلك تجاهلها من قبل صناع القرار في الحكومات المتعاقبة والمؤسسات الدولية، لأنها لم تكن جزءًا من العملية السياسية الرسمية، حيث تحول التركيز على المجموعات المسلحة والكيانات السياسية المدعومة دوليًا، ما قلل من قيمة الدور الاجتماعي التقليدي. 

كما أدت الحرب الأهلية وصراع الميليشيات والانقسام إلى تفكك النسيج الاجتماعي، حتى تحولت بعض القبائل إلى أدوات في الصراع المسلح بدلًا من عوامل استقرار.. وحين استخدمت واستغلت القبيلة في العمل السياسي أمام اختلاف توجهات أبنائها وانتماءاتهم السياسية تشتت القبيلة ووهنت وتعمق الانقسام فيها، والنتيجة أفرغت المجالس الاجتماعية “النضال الوطني من محتواه”.

ولكن قد تبقى هذه المجالس ذات قيمة رمزية أو محلية في بعض المناطق، خاصة إذا أعادت تنظيم نفسها بعيدًا عن الاستقطابات السياسية والمسلحة، واضطلعت بدورها الريادي في المحافظة على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والحفاظ على المناقب الاجتماعية وتوارثها، وتظل الحاضنة الاجتماعية مهمة وضرورية لأي مشروع وطني كبناء القوات المسلحة العربية الليبية مؤسسة نظامية تراتبية منضبطة تعمل على حماية الوطن وسيادته وفرض الأمن والاستقرار. 

زر الذهاب إلى الأعلى