مقالات الرأي

الألسنية العامة بين الفلسفة والمنطق.. المداخلة الثالثة: في اللاهوت 3

بقلم/ مهدي امبيرش

في المداخلة الأولى أشرنا إلى أن بداية مشكلة المعرفة كانت عند آدم وزوجه عليهما السلام، إذ كان البحث عن الخلد والملك الذي لا يبلى، أظهر الوعي بالمحدودية من خلال فهم الزمن، ربما هذا كان بداية تأليه الزمن، فالخلد هو تجاوز هذه المحدودية أو قل تجاوز الزمن وتجاوز مشكلة الصيرورة والتغير، والتي سنجدها في العدمية الصوفية الهندية حيث السعي إلى بلوغ النرفانا، وتوقف التغير الذي هو مبعث الألم (الكارما) والانطفاء الكامل، وهذه ما سوف نقرؤها ظاهرة عامة في الفكر الإنساني، الذي يتخذ تمظهرات متعددة.

هنا يكون الوعي عند آدم وزوجه الخطوة الأولى في تحديد مشكلة من أكبر المشاكل وهي مشكلة المعرفة، فآدم عليه السلام وزوجه أُسكنا مؤقتًا الجنة التي هي على الأرض كذلك، وتكون هذه المرحلة بمثابة إعدادهما لتنفيذ مشيئة الله في الاستخلاف. 

إن الخلد والملكية كانا الباعث على اقتراب آدم وزوجه من ثمار الشجرة المحرمة، ويكون آدم قد نسي وزوجه أنهما مستخلفان في الأرض من خلال أبنائهما، أي أن الخلد لا يتحقق في واحد، فالمحدود منطقيًا لا يسع المطلق بداهةً، وأن الله خلق كل شيء بقدر، وأنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وبذلك يكون آدم قد نسي هذه الحقيقة ورغب وزوجه أن يبقيا في الجنة وأن لا يهبطا منها إلى الأرض.

ولنا أن نشير هنا إلى أن مصطلح الهبوط الذي يستخدمه القرآن، خلاف مصطلح السقوط في اللاهوت النصراني. فالهبوط يكون من ارتفاع قليل على الأرض المتطامنة أي المستوية، في حين أن اللاهوت النصراني الذي اقتبس هذه الفكرة من الميراث اليوناني كما سنقرؤها عند سقراط وأفلاطون، والتي لا تزال حتى الآن على أساس أن الجنة في السماء وأن الإله أو الآلهة يسكنون السماء وأن آدم سقط من السماء إلى الأرض، وسيكون هذا الوهم ما يؤسس عليه الفكر اللاهوتي حتى الآن.

حيث يقول اللاهوت النصراني إن آدم عليه السلام وزوجه قد هبطا وهما يحملان الخطيئة الأصلية، ومن ثَم يبرز الطقس القديم الجديد في ضرورة الخلاص والتطهر، ويجعل اللاهوت النصراني من عيسى عليه السلام المخلص الذي قدم حياته قربانًا لخلاص أتباعه، وقد بُنيَ على ذلك الكثير من الخرافات والأساطير، ومنها ما عُرف بالعشاء الأخير والكأس المقدسة التي كانت مثارًا لأعمالٍ فنية كرسم العشاء الأخير للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي.

نعود إلى نقطة البداية في هذه المداخلة وفي إثبات أن اللاهوت كان محاولةً لاسترداد ما أسماه الإنجليزي ميلتون، بـ “الفردوس المفقود”، كما أوجد فكرة الارتكاسية في حركة التاريخ، والموقف السلفي على أساس أن نقطة البداية هي الكمال حيث الفردوس، وأن التقدم في حركة التاريخ يعمق المأساة. هنا نؤكد على أن بداية المشكلة تقوم على جهل الإنسان بنفسه، لأن بداية المعرفة تأتي من وعي الإنسان بنفسه، وأنه من هذا الوعي يبدأ في إقامة العلاقة سواء مع ما حوله من موجودات الطبيعة وظواهر الكون ثم علاقته مع من حوله من الأناسي.

كما سيظهر الوعي أن الإنسان لا يمكن أن يكون مستقلًا لأن الحاجة تفرض عليه بالضرورة أن يقيم هذه العلاقة، أي أن ينتقل من الأنا إلى الذات التي تضطره في علاقة مقايضة تبادلية إلى التنازل عن بعض ما يخصه مقابل سد النقص مع من يقابله، بل وهذه الحاجة نفسها التي تضطره إلى التنازل إلى الطبيعة والموجودات فيها، وبهذا الوعي تنتهي فكرة الصراع بين الضدين وتبدأ علاقة جديدة مؤسسة لا على المساواة الحسابية، بل التكافؤ الوظيفي، ولا تتم المساواة الحسابية إلا إذا تساوت الوظائف.

مثال ذلك في الجسد الواحد الذي تكون فيه العلاقة عضوية وظيفية، وفيها تتساوى العين اليمنى مع العين اليسرى وظيفيًا وحسابيًا، غير ذلك يكون التشوه والخلل الوظيفي، فحجم العين لا يتساوى مع حجم الفم لأن وظيفتهما مختلفة، وقس على ذلك أعضاء الجسد الأخرى. ويكون الظلم في العلاقات الاجتماعية بمثابة تشوه خلقي وخُلقي.

لقد أدى هذا التصور اللاهوتي القديم إلى توهم ثنائية السماء والأرض، ومنها ثنائية المقدس والمدنس، وقس على ذلك كل الثنائيات التي أوجدت كوارث الصراع بين البشر إلى اليوم، كما أدى ذلك ومن خلال هذا التصور الخاطئ إلى وجود فراغ بين السماء والأرض، ربما أوجد على مستوى الإنسان ثنائية الرأس والجسد والنظر والعمل والسيد والعبد والحاكم والمحكوم، وكان لابد في البحث عن الوسيط الذي يملأ الفراغ، وهو الذي أوجد خرافة المعراج الزرادشتي في الصعود إلى السماء أو هرمس الوسيط بين السماء والأرض، أو هبوط المفارق في السماء إلى الأرض.

سوف نقرأ أثر ذلك على نظرية التعبير والعبور والفرق بين الاسم والفعل، أو حسب أرسطو الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وهذا ما نرجئه إلى المداخلة القادمة في تناول اللاهوت السقراطي الأفلاطوني الأرسطي وتأثيره في المدارس الأوروبية المعاصرة والحديثة.

زر الذهاب إلى الأعلى