المجاعة ورقة الصهاينة الأخيرة للسيطرة على غزة

تقرير ـ سيد العبيدي:
منذ فجر التاريخ، شهدت البشرية مآسي الجوع في ظلِّ الحروب والنزاعات، لكنها، وفي أسوأ حالاتها، لم تصل إلى ما تشهده غزة اليوم من مجاعةٍ فُرضت بالقوة الجبرية قبل ثمانية عشر عامًا، نتيجة حصارٍ صهيونيّ للقطاع منذ 2007 تضاعف مع اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، حتى يوليو 2025.
ولم تكن المجاعة في القطاع مجرَّد غياب للطعام، بل كانت دائمًا مرآةً لانهيار القيم وتصدّع الحضارة. ففي الحروب، حين يعطل العدو لغة العقل ويطلق آلة الحرب الجبارة، تصبح لقمة الخبز أثمن من الذهب، وقطرة الماء أغلى من الدم، ويتحول الجوع من حالة إنسانية إلى عقوبة جماعية.
كما لم يسجّل التاريخ، إبّان صراعات القوى الكبرى، أن واحدةً منها قد اتخذت من الجوع سلاحًا، كما يفعل الاحتلال الصهيوني مع أهل غزة، حيث يفتك الجوع بالبشر بصمتٍ أشد قسوةً من البنادق، ولا يستثني شيخًا ولا طفلًا، ويضرب نياط القلب حين ترى الأمهات يركضن تحت القصف من أجل أطفالهن الذين ينامون جياعًا على وسائد من الدموع.
أمريكا تساند الكيان في تجويع غزة
ورغم الشعارات المعلنة بشأن دعم حقوق الإنسان والقانون الدولي، يكشف الدور الأميركي في العدوان على غزة عن انحياز صارخ يتجاوز حدود الدعم السياسي والعسكري إلى المشاركة الضمنية في فرض سياسة التجويع الممنهجة. فقد ساهمت واشنطن، عبر دعمها المطلق للاحتلال الصهيوني، في تعطيل أي تحرّك دولي لوقف المجازر أو إدخال المساعدات الإنسانية، مستخدمة حق النقض “الفيتو” مرارًا في مجلس الأمن لإفشال قرارات تحمي المدنيين. وبدلًا من ممارسة الضغط على الكيان الصهيوني لفتح المعابر وتأمين الغذاء والدواء، استمرت الإدارة الأميركية في تزويدها بالأسلحة والغطاء السياسي، ما جعل من القانون الدولي أداة معطلة في وجه آلة الحرب، ومن أهل غزة رهائن لسياسات العقاب الجماعي التي تُمارَس على مرأى ومسمع من العالم.
آخر حصيلة شهداء التجويع الصهيوني
إلى ذلك، سجلت آخر إحصائية صادرة عن وزارة الصحة في غزة، وفاة 10 حالات جديدة بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال الـ 24 ساعة الماضية، داخل مستشفيات القطاع.
وأشارت الوزارة إلى أن إجمالي عدد الوفيات بسبب المجاعة وسوء التغذية ارتفع إلى 128 حالة وفاة، من بينهم 86 طفلًا.
وقال البيان إن المجاعة آخذة في التفاقم بكل أنحاء القطاع في ظل انعدام شبه كامل للغذاء والماء والدواء، محذرًا مما اعتبرها روايات زائفة عن دخول مساعدات إنسانية.
وفي الساعات الأولى من صباح الأحد، أفادت مصادر طبية في مستشفي العودة حي النصيرات باستشهادالطفلة نور أبو سلعة البالغة من العمر 10 سنوات، بسبب سوء التغذية.
هذا، وحذر المدير العام لوزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، من أن حالات الوفاة بسبب الجوع تتفاقم على نحو متسارع، لا سيما بين الأطفال.
وكشف البرش عن تسجيل أكثر من 3 آلاف حالة إجهاض ووفاة داخل الرحم في غزة خلال الأشهر الماضية بسبب المجاعة وسوء التغذية.
تصاعد معدل الوفيات خلال الأسابيع الأخيرة
وخلال الأسابيع الأخيرة ارتفع عدد الوفيات بشكل ملحوظ نتيجة الجوع، حيث رُصدت 83 حالة وفاة من الأطفال والحوامل ضمن 114 حالة مجاعة رصدت من قبل منظمة “أطباء بلا حدود” منذ مايو، مع تضاعف الحالات وتفشي المجاعة بشكل متسارع، وخلال أربعة أيام فقط تم تسجيل ما لا يقل عن 45 وفاة بسبب الجوع، وفق تقارير الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة. وفي شهر يوليو وحده، توفّي 48 شخصًا 20 طفلًا و28 بالغًا بسبب سوء التغذية الحاد، بينما يعالج أكثر من 100 ألف امرأة وطفل من حالات نقص التغذية الشديد.
نقص حاد في المواد العلاجية والتغذية
من جهتها حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة “اليونيسف” من نفاد الطعام العلاجي الجاهز، حيث سينفد المخزون المتوفر بحلول منتصف أغسطس ما لم يُرفع الحصار فورًا.
وقالت المنظمة إن الإمدادات الحالية تكفي لعلاج 3 آلاف طفل فقط، ويتوقع نفادها خلال 3 أسابيع ما لم تصل إمدادات جديدة، الأمر الذي ستكون له تداعيات خطيرة، لا سيما على الأطفال المهددة حياتُهم أصلًا بسبب سوء التغذية الحاد.
التجويع سلاح حرب صهيوني
وبدورها، قالت منظمة العفو الدولية “أمنستي” إن الاحتلال الصهيوني يواصل استخدام التجويع أسلوب حرب وأداة لارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وأضافت أمنستي -في بيان- أن معاناة الجائعين في غزة تتفاقم بفعل نظام توزيع المساعدات الصهيونية المستخدم سلاح حرب مدمرًا، مشيرة إلى أن الاحتلال يتعمد تجويع الفلسطينيين، وأنه يجب وقف الإبادة الجماعية في القطاع الفلسطيني الآن.
وقالت أيضا، إن على الاحتلال رفع القيود عن دخول المساعدات فورًا، والسماح للأمم المتحدة بتوزيع المساعدات، كما أن عليها السماح للفلسطينيين في غزة بالحصول على المساعدات دون قيود وبشكل آمن.
تفاقم المجاعة يرفع معدل الوفيات
في الأثناء، قالت المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية إن “المنظمة تخشى من زيادة كبيرة جدًا في الوفيات بسبب المجاعة في غزة”، مؤكدة أنه لم يدخل إلى قطاع غزة سوى القليل جدًا من المساعدات. وأضافت المسؤولة الأممية، أنه لا يوجد مستشفى يعمل بشكل كامل في قطاع غزة، كما أن هناك خشية حقيقية على حياة الطواقم الطبية في غزة بسبب المجاعة.
أكثر من 2 مليون يواجهون المجاعة
وتابعت “20 % من الحوامل في غزة يواجهن الجوع، بينما يعاني الأطفال في القطاع بشكل كبير جدًا بسبب الجوع”. وأكدت، أن الوضع في غزة كارثي وقرابة 2.1 مليون من سكانه يواجهون المجاعة، مشددة على ضرورة أن يكون هناك عمل دؤوب لإنهاء هذه الحرب وفتح المعابر فورًا.
من جانبها، أفادت منظمة “أوكسفام” بارتفاع نسبة الأمراض المنقولة عن طريق المياه بين سكان غزة بنحو 150 %، مضيفة أن الظروف التي يجبر الفلسطينيون في غزة على العيش فيها خلفت بيئة خصبة لانتشار الأمراض.
كما قال مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة الدكتور بسام زقوت إن “على العالم أن يتدخل فورًا لإنقاذ الإنسانية في القطاع”. وأضاف أن أمراضًا جديدة تتفشى في القطاع من الجوع وسوء التغذية، مشيرا إلى أن مرضى السكري يعانون مضاعفات كثيرة بسبب شح الغذاء.
تجويع متعمد لأهالي غزة
في حين قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إن تجويع سكان غزة مصطنع ومن صنع الإنسان. وطالبت الوكالة بإدخال الطعام بطون الجائعين، ورفع الحصار.
وقالت أطباء بلا حدود إن “ما يحدث في غزة تجويع متعمد للناس تمارسه السلطات الصهيونية، وأن على السلطات الصهيونية السماح بدخول إمدادات الغذاء والمساعدات إلى غزة على نطاق واسع”.
وأضاف بيان لأطباء بلا حدود، أن المرضى والعاملين في مجال الرعاية الصحية بغزة يكافحون الآن من أجل البقاء على قيد الحياة، بسبب الجوع.
وأشار البيان إلى تضاعف عدد المسجلين للعلاج من سوء التغذية في العيادات التابعة لأطباء بلا حدود في غزة أربع مرات منذ 18 مايو الماضي، بينما ارتفع معدل سوء التغذية الحاد لدى الأطفال دون سن الخامسة بغزة وتضاعف ثلاث مرات خلال الأسبوعين الماضيين.
مستويات الجوع غير مسبوقة
بدوره، أكد برنامج الأغذية العالمي، أن أزمة الجوع في غزة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة والمطلوب وقف إطلاق النار. أما مجموعة الحماية الدولية فأكدت أن حياة الناس في غزة مهددة كما لم يحدث من قبل مع استمرار الهجمات العنيفة ضد المدنيين.
وأضافت المجموعة أن الظروف الإنسانية في غزة تتدهور بسرعة متزايدة، وتردنا تقارير عن انهيار الناس في الشوارع من الجوع وسوء التغذية.
طفولة مفقودة في غزة
وفي سياق متصل، كشف تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء في القطاع الفلسطيني المنكوب، أن أكثر من 39 ألف طفل فقد كلٌّ منهم أحد والديه، في ظل استمرار الحرب الصهيونية على قطاع غزة. وأوضح التقرير أن 17 ألف طفل فقدوا كِلا الوالدين، في حين استُشهد 18 ألف طفل منذ بداية الحرب.ويعيش أطفالٌ كثيرون أوضاعًا غير مستقرة، في ظل غياب الرعاية الأسرية وتفاقم المجاعة والتراجع الحاد في الخدمات التعليمية والصحية.
ويعج مستشفى الأطفال بمجمع ناصر الطبي جنوب القطاع بعشرات الأطفال الذين يواجهون الموت من سوء التغذية وغياب الحليب الصناعي الذي يعتبر الغذاء الوحيد لمن هم دون الـ6 أشهر.
ويمثل غياب حليب الأطفال من النوعين الأول والثاني معضلة لمن هم دون الـ6 أشهر، حيث لم تعد بالقطاع علبة حليب واحدة، وإن وجدت فإنها منتهية الصلاحية غالبا، ويصل ثمنها إلى 150 دولارا، وفق ما أكده الدكتور أحمد الفرا رئيس قسم الأطفال بمجمع ناصر الطبي بخان يونس.
محاولات بائسة لإنقاذ الأطفال
ويحاول مجمع ناصر إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأطفال الذين وصلوا إليه بما يتوافر لديه من كميات حليب قليلة جدا، وفرها متبرعون ومنظمات دولية، في حين تبحث العائلات في الخارج عن بدائل أخرى مثل المياه واليانسون والبابونج.
ويشعر كافة الأطباء -بمن فيهم الأجانب الذين وصلوا أخيرا لتفقد الوضع- بالإحباط الشديد من الأوضاع المتردية للأطفال الذين تظهر عليهم أعراض لم تعد موجودة في العصر الحديث، مثل تساقط الشعر وتجمّع السوائل وضمور الجسم.
جرس إنذار للبشرية
من جهته أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن جزعه إزاء التدهور المتسارع للأوضاع الإنسانية في غزة، قائلًا إن آخر شرايين الحياة التي تبقي الناس على قيد الحياة تنهار، ووصفت منظمة اليونيسيف صور الأطفال الذين لا يستطيعون الوقوف من الجوع بأنها “جرس إنذار للبشرية”.
كما أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانًا مشتركًا مع شركاء أمميين وصف الوضع في غزة بأنه إحدى أسوأ أزمات الجوع في العالم، وطالب بعدم انتظار إعلان رسمي لحلول المجاعة، لإنقاذ الجوعى.
على صعيد المنظمات الحقوقية كانت الإدانة أوضح وأشد صراحة على قول الحقيقة التي يتجنبها المجتمع الدولي، حيث وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، أدلة على أن “إسرائيل” تستخدم التجويع كسلاح حرب لإبادة السكان في غزة، وانتقد آلية توزيع المساعدات القاتلة، مشيرًا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يخترع طرقًا جديدة باستمرار لتدمير حياة الفلسطينيين في غزة.
خيبة أمل إزاء المواقف العربية
وعلى المستوى الرسمي، خيَّبت الدول العربية التي طالما عُوِّل عليها لنصرة غزة الآمال مجدَّدًا؛ إذ اقتصرت ردودها على بيانات تنديد، فاكتفى مجلس التعاون الخليجي بإصدار بيان استنكر فيه “الحصار الجائر الذي تفرضه قوات الاحتلال الصهيوني على القطاع”، واصفًا إيّاه بأنّه “انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي الإنساني”، كما جاءت بيانات أخرى صادرة عن عدد من الدول العربية لا تحمل مواقف قوية ضد الاحتلال الصهيوني بسبب المجاعة التي فرضها على أهل غزة.