مقالات الرأي

نسق الثورة وسيكولوجيا الثوار

بقلم/ عبدالسلام محمد إسماعيل

عاشت بلادنا ليبيا طيلة الخمس عشرة سنة الماضية حالة من عدم الاستقرار مقرونة بالفشل في بناء الدولة والمحافظة عليها؛ لذلك سيطرت ثنائية الثورة والمؤامرة على أغلب النقاشات الواعية وغير الواعية حتى تاريخه. السؤال المرتبط بتلك الثنائية هو: لماذا عجز الوافدون الجدد عن تحقيق وعود الحرية والديمقراطية والرخاء؟ ولماذا عجزت الدولة الوليدة حتى عن اختيار اسم لنفسها، مكتفية بـ(دولة ليبيا)؟

يمثّل البحث في نسق الثورة وسيكولوجيا الثوار ربما المفتاح المعرفي للولوج إلى الحل والخروج من الدائرة المفرغة للدولة. فالثورة بطبيعتها تمثل حالة رفض لظروف ذاتية خاصة بمجتمعٍ معين، مثل: الظلم، والتسلط، والقهر، والاستعمار، والفقر… إلخ. إذا ما وصلت حدّة وقسوة هذه الظروف إلى حالة تصبح فيها التضحية بالنفس أهون من معايشة ذلك الواقع المرير، حينها تنفجر الثورة كحالة رفض عارم لواقعٍ ظالم، يقوم بالثورة أفرادٌ حالمون بغدٍ أفضل ينشدون الحرية والاستقلال. وبهذا المعنى فالثورة لا يقودها أجنبي، كما أنّها لا يمكن توريدها من الخارج ولا تصديرها أيضًا.

لكن مع تطوّر وسائل الإعلام والهيمنة الإمبريالية عليها، والقدرة المتزايدة على توجيه الرأي العام والتأثير فيه وفق مخططات مدروسة، فإنه من الممكن تمرير فكرة الثورة عبر شيطنة الواقع وتزيين المستقبل بعيدًا عن حقيقة الواقع، كما يُمرَّر السُّم في العسل؛ وعندما يُهضم العسل لا يبقى في الوطن غير السُّم.

ليبيا حتى سنة 2011 لم تتوفر فيها الاشتراطات الموضوعية والظروف الموجبة لاندلاع ثورة، لكنها كانت ضحية لحملة دعائية واسعة ومركّزة جعلتها تنخرط في موجة الربيع العربي في حالة تماهٍ مع شعوب المنطقة التي تختلف ظروفها ومشكلاتها عن الواقع الليبي؛ فدول الجوار تطالب بالعيش (الخبز) والحرية والعدالة، فيما طالب الشعب الليبي بأبراج دبي.

حالات الثورات المُدبَّرة والمخطط لها من الخارج لا تصمد كثيرًا في التاريخ المعاصر؛ شواهد كثيرة. في الحالة الليبية لا يمكن استبعاد العامل الخارجي على مستوى الدعاية والتحريض، وأيضًا على مستوى التنفيذ عبر التدخل العسكري الخارجي. لذلك يمكننا القول، وفق المنهج النسقي، لما يُطلق عليه ثورة فبراير: إنه لا توجد مدخلات خطيرة وظروف ذاتية تتعلق بالظلم والقهر والاستبداد تؤدي إلى ثورة تنتج الحرية والعدل والانعتاق؛ ربما كنا فقط أمام إخفاقات وكبوات وعثرات وأخطاء يمكن إصلاحها بعيدًا عن الدمار الثوري.

هذا من ناحية. أمّا على مستوى سيكولوجيا الثوار، فإننا حقيقةً لم نكن أمام جيفارا الحالم، ولا عمر بن عبد العزيز الوَرِع، بل نحن أمام إفرازات جديدة من الثوار. أبرزهم فئة محددة يتملكها الحقد وتسيطر عليها الكراهية وتكنُّ ضغينة شديدة للداخل الليبي، تأكد لديهم أنهم في مهمة مؤقتة في ليبيا، لا يهمهم بناء أسس الدولة الجديدة بقدر ما يهمهم مقدار التعويضات التي يحصلون عليها قبل المغادرة مجددا، وهذه فئة الثوار الحاقدين، أما الفئة الثانية فأولئك المدفوعون بنزعتهم المادية وحبّ المال، ابتداءً من شعار (شن حصلنا)، مرورًا بمكافآت الثوار وتعويض المعارضين السياسيين بالملايين، وصولًا إلى اعتبار أموال الدولة غنيمة توطئةً لنهبها «ثوريًا»؛ وهذه فئة الثوار اللصوص.

التدخل الأجنبي أفرز نوعًا آخر من الثوار يوالون الاستعمار ويأتمرون بأمره، ويعتقدون أن استمرارهم مرتبط وجودًا أو عدمًا، بوجود المستعمِر المتحكم في مقاليد الحل والعقد في البلاد؛ وهذه فئة الثوار العملاء.

الفئة الأخيرة اعتقدت في بداية الأمر أنها تملك القدرة على النجاح وخلق نموذج أفضل، لكن هذه الفئة سرعان ما انكسرت أمام سطوة النموذجين السابقين، حيث سيطر على تفكيرها الشعور بالذنب مما يفعله رفاق الأمس، فغرقت في الندم وابتعدت عن أي دور فاعل وتركت ليبيا لمصيرها وقدرها المحتوم، ربما التقسيم.. ربما التوطين.. ربما أكثر من ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى