مقالات الرأي

تأملات في زمن الخرافة

بقلم/ عفاف الفرجاني

في زمن تُرسل فيه المركبات إلى المريخ وتُزرع فيه الأعضاء باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، يخرج علينا رجل ليبي بسيط لم يعرف المقاعد الجامعية ولا مختبرات كلية الطب ولم يحمل في عنقه يومًا سماعات الطبيب ليكمل علينا ما تبقى من وهم الحياة، ويعلن في وقار مريب أنه توصل لعلاج مرض السرطان!؟

لا تظنوا أن براءة العلاج كانت بتكنولوجيا نانوية أو خلايا جذعية، بل بالشيح المغلي والقهوة!

المؤلم في هذه القصة ليس في الرجل ذاته، فهناك غيره الكثيرون: منهم المغامرون والمخترعون وحتى المهرجون، ولكن الكارثة في المجتمع الذي تعرّى بجهل في ذلك السيل الجارف من المتابعين والمشجعين الذين طاروا فرحًا بالاكتشاف المعجزة، وبدأوا يتناقلونه “كالنار في الهشيم”!

في تقديري الشخصي – والذي لم أرَ له مبررًا – كيف يتخلى إنسان عن آلاف السنين من تراكمات الطب والعلم والتجربة، ويقف مشدوهًا أمام وصفة لعشبة قدمها من الزمن يعرفها كل سكان الكرة الأرضية والمجرات التي حولها؟! أن تُلغى مجهودات بشرية كاملة تصارع حربًا ضروسًا مع الخلايا السرطانية، نتلاعب بحياة الملايين من البشر عبر العالم.

الشيح نبات مفيد، والقهوة لذيذة، لكن كيف ومنذ متى غفل عنها العلماء؟ ليتركوا المليارات تُرمى عبثًا في المعامل والأبحاث والأرواح تموت، والشيح والقهوة موجودتان!!

السؤال: أين أُجريت الأبحاث قبل خروج مخترع الشيح؟ بل أين حتى ذاك الفأر المسكين الذي جُربت عليه الوصفة؟

إن هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تتفاقم في مجتمعات تصيبها خيبات الأمل والجهل، يغيب فيها المنطق وتعيش الوهم، ويضعف فيها الوعي، وتُستبدل فيها الثقة بالعلم بثقة عمياء في الصوت المرتفع في غرف التواصل الاجتماعي.

الأخطر من كل ذلك، أن هذه الأوهام لا تضر صاحبها فحسب، بل تسرق الأمل من المرضى الحقيقيين، وتقنعهم بترك العلاج العلمي والركض خلف وهم “العلاج الشعبي الخرافي” الذي لم تُثبت فاعليته إلا في خيال صاحبه.

لقد شُوه كل شيء واستُبدل كل شيء وغُيّب كل شيء. نحن بحاجة إلى أن نعيد الاحترام لأنفسنا قبل العلم، كل ما نحتاج له أن يخرج العقل من قمقم الجهل، ليبدأ لا بالتشجيع على السباحة في مستنقع الشعوذة.

يا من تبيعون الوهم في أكواب الشيح والقهوة، لستم المذنبين وحدكم، بل فوضى الإدراك والفهم المجتمعي شريكٌ لكم أيضًا، أما النخب الرافضة لهذا الهراء والهرطقة، فعليكم بتفعيل دور العلم، وبترسيخ العقل النقدي، وإحياء ثقافة البحث والتجارب العلمية، وتعزيز الثقة بالمنهج العلمي القائم على البرهان لا الانبهار.

الأهم: ماذا عندما يتخلى المريض عن دوائه ليجرب وصفة عشوائية؟ إنه لا يغامر بالشفاء، بل يسرّع خطواته نحو الهلاك؟

لا بد من مواجهة الخرافة بتعليم رصين، ومنظومة صحية تدمج التوعية مع العلاج، مع رقابة صحية وأمنية توقف هذا العبث، فالعلم ليس رفاهًا نخبويًا، بل صمام نجاة.

نحن اليوم أمام مأساة مؤجلة لكل مريض وذويه آمنوا بهذه الخزعبلات، لنرفع صوت العقل والمنطق والعلم، قبل أن يخمده جهل مقنّع بعباءة الطب السريع.

زر الذهاب إلى الأعلى