مقالات الرأي

الغزِّيُّون.. والعزَّاميون!

بقلم/ مصطفى الزائدي

غزة أسطورة الصبر والصمود والكبرياء، المدينة الأكثر تناولًا في إعلام العالم، عنوان الكفاح الإنساني ضد الظلم والبطش، منها حكايات متناقضة وملاحم مقاومة بطولية وبدايات تكوين لأخطر وباء أصاب الأمة.

يتضور الغزيون جوعًا، مئات الموتى يسقطون يوميًّا بسببه من الأطفال والكبار.. جوع لم ينتج عن كوارث طبيعية ولا قلة الموارد والإمكانات، بل جوع منظم بفعل فاعل، في وقت انتهت فيه المواثيق والقيم والأعراف الإنسانية.

حصار غزة الخانق الذي تنفذه دولة الكيان بدعم وحماية سياسية وعسكرية ودعائية من الولايات المتحدة ورئيسها غريب الأطوار دونالد ترامب لم يشهد له التاريخ مثيلًا، أكثر من مليوني إنسان محشورون في 360 كيلومترًا مربعًا تنهال عليهم القذائف والصواريخ من الجو والبحر والبر على مدار الساعة طيلة 22 شهرًا، ويُمنع عنهم بشكل شامل الدواء والغذاء والماء والوقود وكل شيء يتعلق بمتطلبات الحياة!

غزة الواقعة في مرمى نيران الحقد حتى صارت مكانًا للرعب الدائم وساحة للقتل الممنهج، فيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يتصدون بشجاعة وبسالة للعدوان بدون توازن في القوة، حتى سجلوا براءة اختراع “المسافة صفر”؛ يواجهون أحدث آلة حرب في العالم مسخرة للعدو، ويلحقون بها الخسائر الفادحة، بلا سند ولا دعم إلا بدعاء في الصدور ربما، وتعاطف لا يغيّر الموازين. فالمحيط العربي وخلفه الدائرة الإسلامية – باستثناءات قليلة – مجرد مشاهدين عاطفيين، يتابعون عبر الشاشات معاناة بني جلدتهم وكأنهم يتفرجون على مشاهد من فيلم خيالي.

لقد نجح العدو في تنفيذ مؤامرة كبرى في المنطقة بأن أسقط الدول التي يمكن أن تعرقل مخططاته التوسعية، ودمر الجيوش التي تمتلك قدرات للتصدي لعدوانه، كما نجح في نشر الفوضى في كثير من البلدان المحيطة به وخلق أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية تمنعها من التدخل الإيجابي لمواجهة المشروع الصهيوني، بالرغم من معرفة العرب حكامًا وشعوبًا بأن ما تتعرض له غزة دليل على طبيعة المشروع الغربي القاضي بالقضاء على وجود العرب بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، واستبدالهم بسكان آخرين من يهود العالم، كما تم مع الهنود الحمر واستبدالهم بسكان العالم الجديد الحاليين.

لا لوم على الأنظمة العربية رغم تأكدنا من عمالة بعضها وارتباطها بالدوائر الاستعمارية، فالعدد الأكبر منها منهمك في مشاكل أُغرقت فيها منذ سنوات طويلة، وبالكاد تستطيع أن تدافع عن بقائها إن تعرضت لأبسط عدوان، وترى أمامها صور إسقاط الأنظمة الوطنية التي حاولت رفع صوتها، وآخرها ما حدث في سوريا، واستبدال نظامها السياسي الوطني بنظام آخر عميل مرتبط بالمشروع الصهيوني وفق خطة متكاملة وضعها الكيان وشاركت في تنفيذها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا والدول العربية الرجعية، وحاليًا تصارع الزمن للتطبيع مع الكيان وتساعده في تدمير كل المقدرات العسكرية للجيش العربي السوري، وتوطين فتنة طائفية وعرقية مستدامة تمنع سوريا من النهوض مجددًا في الزمن المنظور، بل تجعل منها بؤرة لتوتر إقليمي طويل المدى، ووسادة تأمين لشمال الكيان ومشرقه!

ليس مصادفة أن يكون المؤسس الأول لهذه الجماعات التي تدير سوريا حاليًا ونشرت الفكر التكفيري الذي زرع الموت والدمار في أغلب البلدان العربية طيلة العقود الثلاثة الماضية، مؤسس هذا المشروع هو الغزِّي عبدالله عزام!

ولمن لا يعرف عزام فهو رجل من غزة جنده الموساد، وتبناه الأمريكيون ومولته الدول العربية الرجعية، ففُتحت له الأبواب والمعسكرات وتنقَّل من غزة إلى الخرطوم ثم بيشاور في معسكرات تولى التدريب فيها رجال المخابرات الأمريكية والصهيونية والبريطانية، ووفقًا لمعلومات موثوقة وبعضها صار متاحًا للجميع، كُلِّف عبدالله عزام بتكوين مجموعات مقاتلة تحت ذريعة الجهاد ضد السوفييت الملحدين في أفغانستان وتأسس أخطر تنظيم إرهابي بصناعة صهيونية غربية وبشعارات إسلامية خادعة، وهو تنظيم القاعدة!

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أعاد الغرب استخدام من عُرفوا بالعرب الأفغان في تشكيل تنظيمات إرهابية في الدول العربية، واستُخدم العزّاميون في تنفيذ مؤامرة ما سموه الربيع العربي، تحكموا في جزء من ليبيا، ولم يستمروا في مصر، لكنهم أخيرًا مُنحوا سوريا! ولأن للاستخبارات الصهيونية والغربية بدائل متعددة، فعمدوا إلى تأسيس تنظيمات أخرى مشابهة أهمها داعش وأنصار الشريعة وغيرهم، نفذت عمليات إرهابية وحشية في تلك البلدان، ولم يطلقوا رصاصة واحدة على الكيان ولا على الدول الغربية الداعمة له، بل استهدفت عملياتهم المواطنين العرب مسلمين ومسيحيين بذَرائع مختلفة، ومن ضمن ما اقترفوه من جرائم محاولات إزالة كل الآثار الإسلامية في المنطقة بادعاء التوحيد، ومن أهم أمثلتها تدمير مقابر الصحابة في زويلة الليبية، وهي من الآثار الإسلامية الفريدة في الصحراء الكبرى.

سيطرة العزّاميين على السلطة في سوريا تزامنت مع تكثيف العدوان العسكري على غزة، والهجوم على قوة المقاومة في لبنان واليمن والهجوم على إيران. لست في حاجة لأن أبين ما يجري الآن في سوريا وعلاقته بالمشروع الصهيوني الذي لم يعد أمرًا سريًّا يُدار بقنوات مغلقة، بل يُمارس في العلن ويلتقي الطرفان في باكو وباريس ودمشق!

من غزة العظيمة هذه، خرج عبدالله عزام الذي يعاني كل الوطن العربي والعالم الإسلامي نتائج أفعاله، وأيضًا يحيى السنوار ومحمد ضيف وغيرهم من الأبطال الذين يحاولون إعادة الصراع إلى أصله، لكونه صراع وجود بين العرب – مسلمين كانوا أو مسيحيين، شيعة أو دروزا أو سنة – وبين الصهاينة.

زر الذهاب إلى الأعلى