الشيح، والإدمان الرقمي، والثرثرة، والتهييج الشعبي

بقلم/ د. محمد جبريل العرفي
المعلومات أصبحت تتدفق بغزارة، وتصل إلى الفرد دون أن يبحث عنها، وبطريقة غير محايدة، من خلال خوارزميات تُغذّي تفضيلاته وتصنع توجهاته، بتكرار لما نحب أن نسمعه أو نشاهده، لا ما نحتاج إلى معرفته؛ فيعيش الإنسان في فقاعة معرفية، يُقصى عنها كل ما يخالفه من آراء ومعلومات، فيُصبح كل مستخدم ناقلًا محتمَلًا للمعلومة التي لا تنتشر لكونها صحيحة، بل لأنها تلهب المشاعر أو تنسجم مع الأهواء.
تتلوث المعلومة عندما تفقد سياقها، وتُنقل دون تحقق، بإعادة الصياغة، والتلخيص، والنشر بقوالب جديدة وبوسائط متعددة، دون تمحيص أو وعيٍ يفرق بين الحقيقة والكذب، أو بين الصحيح والخاطئ، أو بين الموثوق والمفبرك، أو بين الواقعة والشائعة، أو بين العميقة والسطحية. فتترسخ في العقل الجمعي بالتكرار، وتتحوّل إلى بديهية تكتسب شرعية زائفة، حتى لو كانت في الأصل محض كذب وزيف. وهكذا تصبح أداة تضليل وتهييج شعبي. هذا ما يُدركه صانعو الإشاعات ومروّجو الأكاذيب. لقد أصبح التزوير ناعمًا؛ فلا يحتاج مُزوِّر الحقائق إلى تزوير أدلة، بل يكفيه أن يقدَّم المعلومة المغلوطة ضمن قالب جذاب، ثم يُعاد تكرارها بسرعة. وقد زاد من تفاقم الأمر ظهور الذكاء الاصطناعي، الذي بات قادرًا على توليد مقاطع مرئية ومسموعة، باستنساخ بصمة الصوت أو تحريك الصور الشخصية. وقد وصل الأمر، بداية هذا الشهر، إلى تقليد مقاطع لوزير الخارجية الأمريكي، وإجراء حوارات باسمه مع مسؤولين أجانب، كما تم تقليد مقاطع لقادة سوريين بإدارة المعركة الأخيرة كإصدار أوامر بالانسحاب دون علم الرئيس.
تراجعت الأعمال الفكرية والفنية العميقة؛ فلم يعد معيار المرجعية المعرفية قائمًا على المؤهل أو المنهجية أو التوثيق، بل على عدد المتابعين وجودة (المونتاج) ووسائل الجذب، فاختفى الخبير، وصعد من يُتقن لغة المنصات (يوتيوب، تيك توك، فيسبوك، إنستغرام، X وغيرها)، ممن لا يحملون بالضرورة مؤهلًا علميًا أو مصادر موثوقة أو رؤية واقعية، بل يبحثون عن الشهرة والكسب المادي بفعل كثرة المشاهدات والمتابعات.
وانتشر الإدمان الرقمي دون إنتاج معرفة، بل بإنتاج ضجيج معرفي يُخفي الأصوات الجادة خلف كمٍّ هائل من الثرثرة الإلكترونية، ويُغرق الناس بالمعلومات غير المهمة والترفيه السطحي. لم يعد المجتمع يستمع للمتخصصين بقدر ما يتابع المؤثرين، فانتقلنا من سلطة المعرفة إلى سلطة التأثير، وذابت الفروق بين الخبر والرأي، وبين التحليل والثرثرة، وبين المعلومة الموثقة والانطباع الشخصي، وبين الخبير المتخصص وصانع المحتوى العابر.
وأصبح الناس يناقشون مسائل تخصصية في العلوم السياسية أو التطبيقية، مستندين إلى مقطع قصير أو تغريدة عابرة. بل أضحى البعض يرفض صوت الخبير بحجة أنه “أكاديمي” أو “منحاز”، بينما يُصدّق صانع المحتوى لأنه يُتقن لغة المنصة. فأصبح الجهل أكثر قبولًا من العلم. ببلادنا مقاطع “الشيح” نموذج صارخ لتغليب رأي الجاهل على رأي الخبير.
كما فقدت المجتمعات القدرة على الحوار العقلاني، فالحقيقة لم تعد موحّدة، وتكرار المعلومات المغلوطة أو المجتزأة يسهم في تسطيح الوعي، ونشر السلبية والتشاؤم، وتأجيج الكراهية، وانحدار القيم الأخلاقية والإنسانية، فضياع “الحقيقة المشتركة” والانقسام المعرفي؛ أدى إلى الانقسام السياسي والمجتمعي، ترويج الإشاعات أو تشويه الحقائق، أصبح سلاحًا للهيمنة، وصناعة الرأي العام، وإثارة الشغب.
في مواجهة هذه الفوضى، نحن بحاجة إلى تربية معرفية جديدة، تُعلّم الأجيال كيف تفرّق بين المعلومة والرأي، وبين المصدر الموثوق والتدوينة العابرة، وبين التحليل العلمي والانطباع الذاتي. وهذا لا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار للتفكير النقدي في المناهج التعليمية، وتعزيز ثقافة القراءة البطيئة والعميقة، لا التمرير السريع للمحتوى.
العقل ينجو من تلوث المعلومات بالفرز النقدي، والتحقق، والوعي المنهجي. لقد أصبحت المعرفة مسؤولية فردية، لا جماعية فقط؛ فهناك حاجة إلى رقابة ذاتية، تحمينا من أن نصبح صدى أجوف لما يتناقله الآخرون. لذا ينبغي أن نبني أدواتنا الداخلية لفرز المعلومات، بامتلاك مهارات التفكير النقدي، والتأني في إصدار الأحكام، والتحقق من المصادر، وتحليل السياقات، يجب أن نحسن انتقاء ما نشاهده ونقرأه ونتابعه، ونتعلّم كيف نقرأ ببطء، ونسمع بتأنٍّ، ونشاهد بتأمل، ونتريّث في الحكم، ونطرح الأسئلة، لا أن نسارع بالإجابات. ويجب أن نستعيد قيمة “المعلومة الأصلية” و”المرجع الأول”، لا أن نبني ثقافتنا على القصاصات والمقتطفات والمقاطع القصيرة.
علينا أن نُعيد الاعتبار للعقل، كمرشد أخلاقي يوجّهنا نحو الحقيقة. فالمعرفة ليست بكثرتها، بل بعمقها. وقيمة المعلومة لا تُقاس بعدد المشاركات، بل بقدرتها على تكوين الفهم ونشر الحقيقة.
علينا أن نُميّز الغثّ من السمين، وأن نُعيد امتلاك أدواتنا الداخلية للفرز والتمحيص، حتى لا نُعيد إنتاج الزيف دون قصد، ولا نكون مجرّد صدى لما يتداوله الآخرون.
كما يجب على المؤسسات الإعلامية أن تُعيد رسم حدود العلاقة بين المعلومة وقيمتها؛ فليس كل ما يُنشر يُعدّ معرفة. لقد انتقلنا من عصر ندرة المعرفة، إلى عصر وفرة اللامعنى، ومن مجتمعات تفتقر إلى المعلومات، إلى مجتمعات متخمة بالمعلومات.
المعرفة لا تُقاس بكثرتها، بل بعمقها. ولا تُقاس بعدد الإعجابات، بل بقدرتها على صناعة الفهم. وإذا لم نتحلَّ بالوعي النقدي، والقدرة على التفكيك والتمحيص، فسوف نظل نُعيد إنتاج المعارف الزائفة، ونُسهِم – بغير قصد – في تضليل الذات والمجتمع.
فليكن الوعي غربالًا نُميّز به الغثّ من السمين، والرصين من الضجيج، والحقيقة من الوهم، والنزيه من الغرضي. أخيرًا الحذر من تسرب التافهين لمواقع صنع القرار.