الألسنية العامة بين الفلسفة والمنطق.. المداخلة الثانية: في اللاهوت 2

بقلم/ مهدي أمبيرش
سبق أن تحدثنا في مبحث سابق على صفحات الموقف الليبي ضمن سؤالٍ ماهوي: ما الإنسان؟ وذكرنا أنه في اللسان العربي يُفرَّق بين السؤال والاستفهام؛ فالسؤال يفتحنا على الحقيقة بما هي وجود، أو علم، وأن هذا السؤال يبقى مفتوحًا ما بقي الإنسان نفسه، فالسؤال: ما الجمال؟ هو سؤال عن المطلق، أو الذي نسميه في العربية اسم المعنى، والذي – على الرغم من أن مفكرين ألّفوا كتبًا تحت عنوان الجمال، كما أن أقسامًا فيما يُعرف بالفلسفة تُدرِّس لطلابها أبعد من ذلك، أي إنها تدّعي إمكانية تدريس الجمال – وقس على هذا السؤال الماهوي أو الوجودي أو المطلق أو الحقيقة كل أسماء المعاني. حتى إن من يُعرفون في تاريخ الفكر الأوروبي، من الذين يُطلق عليهم الاسميون، يرون أن هذه الأسماء ليست سوى أسماء في الذهن، وأنه بالتقدم الهائل في مباحث الفيزياء وما يترتب عليها، يرون أنها من الأسماء الفارغة التي لا مفهوم لها، وأنها ميتافيزيقا، حيث إن العلم في نظرهم لا يكون إلا في الفيزيقي الذي يمكن ملاحظته وتأمله ومن ثم يمكن التحقق منه، أو حسب مصطلح المنطق، أن له في الموجود العيني الذي يصدق عليه.
وعلى الرغم من أن هذا التطرف في حصر المعرفة في هذا الموجود المدرك مردود عليه، لأن الذي نتوهم أننا نراه بأعيننا أو نسمعه بآذاننا أو نشمه بأنوفنا أو نلمسه بأيدينا إنما ندركه في الذهن ولا ندركه مباشرةً كما يقولون، وإن كل مدركاتنا إنما ندرك صورها لا هي، فعالم إدراكنا إذًا هو عالم الصور. إن هذه المشكلة قد بدأ التفكير فيها جديًا في اليونان وبخاصة وبلاد الإغريق بعامة، وإن الخلاف الذي تم بين أفلاطون وأستاذه سقراط من جهة ومن يُعرفون بالفلاسفة الطبيعيين إنما هو الأساس الذي حاول أن يصوغ أزمة التعريف القديم الذي أنتج اللاهوت القديم المتجدد حتى الآن، بل كان وراء ما وصفناه بالشرك المنهجي أو الشرك في منهج التفكير الذي بُني من خلال النظرة إلى الكون على أساس أنه مركب من ثنائية السماء والأرض، وأن الحقيقة هي في السماء التي هي موطن الآلهة أو عالم الكمالات أو المُثل الأفلاطونية، وأن هذا العالم مجرد من كل ما هو مادي، كما أنه عالم ساكن لا يتحرك، لأن الحركة تقتضي التغير والصيرورة التي تحتاج إلى الفراغ، فعالم المُثل عالم ممتلئ.
ولقد ذكرنا في المداخلة السابقة أن الأساطير القديمة قد كانت تقول بهذه الثنائية (dualism)، ومن ثم جاءت الزرادشتية بخرافة المعراج الزرادشتي، الذي سبق أن قلنا إن هذا المعراج الخرافي يقتضي سببًا أو وسيلة خرافية جعلت من زرادشت يمتطي حيوانًا بين البغل والحصان يصعد به إلى السماء، وهو الذي قلنا إن الزرادشتيين الزنادقة الذين تظاهروا بالإسلام أسقطوا هذه الفكرة على حادثة الإسراء وجعلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصعد إلى السماء على حيوان خرافي سموه البراق.
فالثيولوجي يقبل أن الله، حتى في اللاهوت عند الكثير من المسلمين، أنه في السماء، ويكمن الخلل المنطقي في هذا الكون قبول فكرة أن المطلق يحل في المحدود. وهذه الفكرة سنجدها تتكرر فيما يُسمى بالحلولية الصوفية، ومن ثَم لا مناص إلا القبول بمحاولة المقدوني أرسطو إنزال المُثل الأفلاطونية إلى الأرض، وهو صاحب فكرة الأرغانون، أو ما يُسمى بالمنطق الصوري، الذي حاول المادي الفيزيائي فرنسيس بيكون أحد مؤسسي الوضعية المنطقية أن يستبدل الأرغانون العيني بأرغانون أرسطو، وأنه سمى أسلوبه الجديد بالأرغانون الجديد، وكأنه يُصحح المنطق الصوري عند أرسطو الذي قَبِل به بداهةً بمنطق عيني قابل للإدراك.
ولنا أن نقول إن مقولة الفصل بين السماء والأرض قد أحدثت مشكلة في قبول هذه الفكرة، إذ كان هذا يقتضي ضرورة وجود الوسيط الذي يملأ الفراغ، أو اللغة المشتركة التي تربط بين المقدس والإلهي والمدنس المادي البشري. ومن هذا القول تأسست كل مناهج التفكير القديمة الجديدة، حتى إنه يمكننا القول، تأسيسًا على مقولة فيلسوف التاريخ الإيطالي بنديتو كروتشه، إن كل التاريخ تاريخ معاصر، ونحن نقول إن كل الفكر فكر معاصر، وإن أزمة المعرفة القديمة ومنهج التفكير القديم لا يزال يقود مناهج التفكير اليوم. وبهذا تصدق المقولة: “إن العالم يتقلب ولم يتغير”، وحتى نبرهن على ذلك سوف نتناول في المداخلة القادمة الثنائية والثالوث (trinity) في الفكر القديم الذي يوصف بالخرافي والأسطوري.