مقالات الرأي

من يُعوض من؟!!

بقلم/ فرج بوخروبة

في كل مرة تتجدد فيها المطالب الإيطالية لتعويض رعاياها الذين غادروا ليبيا عام 1970 يعود سؤال أعمق إلى الواجهة: من يُعوض من؟ وهل يُعقل اختزال قرنٍ من الاستعمار والاستيطان والقتل والتهجير في لحظة ترحيل واحدة؟ وهل من المقبول قانونيًا وأخلاقيًا مطالبة الشعب الليبي بتعويض مستوطنين كانوا جزءًا من منظومة استعمارية استنزفت البلاد ومزقت نسيجها لعقود؟

في أحدث تصريح لها قالت فرانسيسكا ريكوتي رئيسة رابطة الإيطاليين العائدين من ليبيا حان الوقت لرفع الظلم وتعويض آلاف العائلات الإيطالية النازحة قسرًا من ليبيا عام 1970، ووصفت يوم الحادي والعشرين من يوليو من ذلك العام بأنه جرح غائر لم يندمل بعد بسبب مصادرة منازل وأراضٍ زراعية وحسابات مصرفية كانت مملوكة لهم داخل ليبيا.

هذه التصريحات تُعيدنا إلى أصل الحكاية، أصل لا يبدأ في يوليو سبعين، بل في أكتوبر ألف وتسعمئة وأحد عشر، حين نزلت أولى السفن الحربية الإيطالية على شواطئ طرابلس ودرنة وبنغازي فاحتلت البلاد بقوة النار وفرضت حكمًا استعماريًا عنصريًا أنهك الأرض والبشر لعقود طويلة من الزمن.

الحديث عن التعويض لا يمكن فصله عن السياق التاريخي، نحن لا نتحدث عن خلاف اقتصادي عابر، بل عن استعمار دمر بنية المجتمع الليبي وأحرق قرىً بأكملها وزج بآلاف الرجال والنساء والأطفال في المعتقلات، وأعدم الرموز الوطنية واغتصب الأرض وسخّر الإنسان وجعل من البلاد ساحة لتجريب النظريات الفاشية في الهندسة السكانية والثقافية، من لم يفهم هذا السياق لا يفهم معنى أن يُقال من يُعوض من؟

في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كانت المعتقلات التي أقامها الجيش الإيطالي في العقيلة والمقرون وسلوق والبريقة وغيرها شاهدة على أكبر عملية تجميع قسري للمدنيين الليبيين في ظروف غير إنسانية تُرك فيها عشرات الآلاف للجوع والعطش والمرض دون دواء أو حماية أو سقف تحميهم به من لهيب الصحراء، توفي الآلاف دون أن يُعرف عددهم الدقيق، وأُجبر آخرون على الرحيل إلى إيطاليا في ما يشبه النفي السياسي.

لم يكن ذلك سلوكًا فرديًا، بل سياسة ممنهجة أقرّها الجنرال غراتسياني وأشرف عليها نظام موسوليني بهدف سحق الحاضنة الشعبية للمقاومة ونزع الروح المعنوية من المجتمع الليبي وإخضاعه للمشروع الاستيطاني بكل أبعاده

وكان من الطبيعي أن تصحب هذه السياسات عمليات نهب موسعة للمزارع والأراضي التي انتُزعت من أهلها وأُعطيت للمستوطنين الإيطاليين الذين استقروا على حساب السكان الأصليين وتمتعوا بكافة الامتيازات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية في ظل نظامٍ يضعهم على رأس السلم ويرمي الليبيين إلى هامش الحياة.

وفي عام ألفين وثمانية أُجبرت إيطاليا على الاعتراف بهذا التاريخ رسميا عبر معاهدة صداقة وشراكة مع الدولة الليبية بضغط مباشر من القيادة الليبية آنذاك ممثلة في العقيد معمر القذافي الذي جعل من ملف الاستعمار نقطة اشتباك دائمة مع روما حتى نالت ليبيا اعترافًا صريحًا واعتذارًا رسميًا وتعويضًا رمزيًا بقيمة خمسة مليارات دولار تُنفذ على مدى عشرين عامًا عبر مشاريع تنموية أبرزها الطريق الساحلي.

كان هذا الاعتراف سابقة لم تحدث من قبل ولم تحدث حتى الآن من أي دولة استعمارية أخرى تجاه مستعمراتها السابقة، خطوة شجاعة تحققت بإرادة سياسية ليبية واعية وموقف تفاوضي حازم فرض على الدولة المستعمِرة أن تنحني للتاريخ.

ومع ذلك فإن هذا الاعتراف لم يكن كافيًا من حيث الشمول والعمق لم يُعترف قانونيًا بضحايا المعتقلات، لم تُوثق جرائم الإبادة بشكل رسمي، ولم يُنصف أهالي الشهداء أو ورثة المنفيين، ولم تُفتح الأرشيفات الإيطالية أمام الباحثين والمؤرخين الليبيين لاستكمال الرواية.

واليوم بعد هذا كله يعود صوت المستوطن ليطالب بالتعويض وكأن الضحية هي الجاني، وكأن طرد المستعمر من أرض اغتصبها يُعد ظلمًا لا عدالة.

إن ترحيل الإيطاليين في عام 1970 لم يكن فعلا انتقاميًا، بل ممارسة سيادية لدولة استعادت أرضها واستقلالها بعد عقود من الاحتلال، وكان من الطبيعي أن تُنهي الوجود الاستيطاني الذي طالما ارتبط بالاستغلال والتفوق العنصري والهيمنة الاقتصادية، ولا يجوز في أي منطق أن يُطلب من الضحية تعويض من استوطنها ونهب خيراتها بإرادة مستعمِر لا بإرادة شعب.

القانون الدولي واضح في هذا الباب، إذ يمنح الشعوب الواقعة تحت الاستعمار كامل الحق في استعادة أراضيها دون التزام تعويضي تجاه المستوطنين، بل ويقرّ بحقها في المطالبة بالتعويض عن فترة الاحتلال نفسها بما فيها من انتهاكات واستنزاف اقتصادي وأضرار ديمغرافية ونفسية وثقافية.

ولهذا، فإن السؤال الحقيقي يجب أن يُطرح بالمقلوب لا من يُعوض الإيطاليين، بل متى يُعوض الليبيون؟ متى يُعاد الاعتبار لضحايا المعتقلات؟ متى تُوثق الجرائم كمواقع إبادة؟ متى تُدرج المعتقلات ضمن قائمة التراث الإنساني كمراكز ذاكرة لا يجوز أن تُمحى أو تُنسى؟

زر الذهاب إلى الأعلى