“الموقف الليبي” تحاور ” دليل أمد ” ممثل حزب العمال الكردستاني في تركيا

الموقف الليبي :
منذ تأسيسه، قاد حزب العمال الكردستاني نضالًا سياسيًا وعسكريًا شاقًّا ومريرًا من أجل حرية الشعب الكردي وإثبات وجوده ضد سياسة الإنكار والإبادة التي تمارسها الآلة العسكرية التركية. وعلى الرغم من الإعلانات المتكررة للحزب بترك الخيار العسكري، فإن استجابة الطرف التركي لم تجعل من تلك الإعلانات خيارا يمكن البناء عليه من أجل السلام.
ومع التغيرات التي تشهدها المنطقة، أعلن رئيس حزب العمال الكردستاني القائد (عبدالله أوجلان) عن مبادرة جديدة قوامها التخلي عن السلاح والدخول في مفاوضات مع القيادة التركية، تحقق الحقوق المشروعة للشعب الكردي.
أجرت صحيفة الموقف الليبي حوارًا خاصًا مع السيد “دليل أمد” عضو لجنة العلاقات الخارجية لمنظومة المجتمع الكردستاني (kck)، للحديث عن جذور القضية الكردية، وأسباب نشوء الحزب، وتحولاته الفكرية والسياسية، وكذلك عن رؤيته للتعايش المشترك، ودروس التاريخ التي يمكن أن تستفيد منها الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الليبي، في مواجهة التدخلات الخارجية وبناء مستقبل ديمقراطي يقوم على القواسم المشتركة.
في مستهل اللقاء، كان سؤالنا الأول: كيف توضحون للقارئ الليبي خصوصًا، والعربي عمومًا، طبيعة القضية الكردية؟
عندما تُذكر “المشكلة الكردية”، فنحن في الواقع أمام قضية نشأت نتيجة لتقسيم المنطقة على مدى أكثر من قرن بما يتماشى مع الأهداف الإمبريالية للنظام الرأسمالي، وإنكار وجود الشعب الكردي.
الكرد هم من الشعوب الأصلية التي سكنت جغرافيا كردستان منذ القدم، وليسوا من الشعوب التي جاءت واستقرت لاحقًا كما هو حال بعض الأمم الأخرى. ولهذا فهم شعب يمتلك جذورًا عميقة وتراكمًا ثقافيًا غنيًا. إنهم من الشعوب المستقرة في جغرافيا ميزوبوتاميا، التي تُعرف بأنها مهد الحضارات، عند سفوح جبال طوروس وزاغروس.
هذا الشعب، الذي عاش في هذه الجغرافيا تحت مسميات مختلفة، عاش دائمًا في سلام مع الشعوب المجاورة له. وخلال القرن الأخير، وبعد إنكار وجود الكرد وتقسيمهم، قاوموا في أزمنة وأماكن متعددة، وتعرضوا لمجازر عديدة. ورغم كل ذلك، فقد عرفوا كيف يعيشون في سلام مع الشعوب التي عاشوا معها لآلاف السنين. وحتى اليوم، فهم يمتلكون فلسفة تقوم على التعايش المشترك مع الشعوب الأخرى في المنطقة، وفي مقدمتها الشعب العربي، والأتراك، والفرس، وباقي الشعوب الموجودة.
أما في ليبيا اليوم، فقد أصبحت الساحة مسرحًا لحروب الوكالة التي تقودها قوى خارجية نتيجة للسياسات الرأسمالية التي أدت إلى تقسيمات وصراعات. إن إيماننا هو أن الشعب الليبي الوطني سيتمكن من تجاوز هذه الحرب عبر ديناميكياته الداخلية، وأنه سيؤسس حياة ديمقراطية جديدة قائمة على القواسم المشتركة بدلًا من التركيز على الاختلافات.
لأن الشعب الليبي، عبر التاريخ، قد أبدى مقاومة بطولية في وجه الهجمات الخارجية الساعية للهيمنة والرأسمالية، وقد لقّن الغزاة الدروس اللازمة. وبناءً على جذوره النضالية، أؤمن أن الشعب الليبي سيتمكن من إعادة تأسيس حياة مشتركة قائمة على أسس ديمقراطية. وبهذا الإيمان، أرسل تحياتي واحترامي الخالص له.
متى تكوّن حزب العمال الكردستاني؟ وما مرتكزاته الفكرية؟
تأسس حزب العمال الكردستاني (PKK) في 27 نوفمبر 1978 في بيئة ثنائية القطب (اشتراكية ورأسمالية). وكان الهدف الأساسي من تأسيسه هو خوض حرب تحرير وطنية من أجل إقامة دولة على جغرافيا كردستان الموحدة، التي قُسمت واحتُلت من قبل أربع دول (تركيا، إيران، العراق، وسوريا)، وتم إنكار هوية ووجود شعبها بالكامل.
في تلك الفترة، كانت حركات التحرر الوطني، تحت تأثير الاشتراكية الواقعية، تعتبر أن تقرير المصير عبر إقامة دولة أمر ضروري ولا غنى عنه. ومن هذا المنطلق، تأثر حزب العمال الكردستاني أيضًا بهذا التوجه، وتبنى أيديولوجيا تهدف إلى تأسيس كردستان موحدة ذات طابع اشتراكي تقوم على أساس طبقي.
وبهذا المعنى، خاض الحزب كفاحًا يجمع بين البُعدين الطبقي والوطني في آنٍ واحد.

ما العوامل التي دفعت بحزب العمال الكردستاني إلى التوجه للعمل العسكري؟
في الفترة التي تأسس فيها حزب العمال الكردستاني (PKK)، خصوصًا في تركيا، لم يكن من الممكن حتى مجرد التلفظ بكلمة “كردي”. لقد كان كل ما يتعلق بالكرد وكأنّه غير موجود تمامًا. بعض الأوساط الكردية حاولت القيام ببعض المبادرات من خلال جمعيات مختلفة، لكنهم كانوا يتجنبون استخدام كلمة “كردي” خوفًا من العواقب.
لكن حزب العمال الكردستاني وقائده اختاروا طريقًا ومنهجًا مختلفًا تمامًا. فبعد أن حدّد القائد عبد الله أوجلان (أوجلان يُلقب بـ “القائد آبو”) أن “كردستان مستعمرة”، بدأ بتنظيم نشاطاته على هذا الأساس.
وفي تلك المرحلة المظلمة والصعبة، بدأ حزب العمال الكردستاني بتنظيم نفسه على أساس الاعتراف بالهوية الكردية التي كانت منكرة تمامًا. وفي ظل هذه الظروف، كان العمل تحت اسم “الكرد” بحد ذاته يعني مواجهة خطر القتل أو الاعتقال أو حتى الإبادة.ومن نتيجة هذه الظروف، لجأ الحزب إلى الكفاح المسلح كوسيلة لإثبات وجوده. ولم يكن هذا الكفاح المسلح خيارًا أو ترفًا، بل كان ضرورة فرضتها الظروف التي لم تكن تتيح أي وسيلة أخرى للنضال.
ماذا عن علاقات حزب العمال الكردستاني الخارجية؟
يقوم حزب العمال الكردستاني (PKK) بتنظيم عمله في العلاقات الخارجية على محورين رئيسيين: العلاقات الاستراتيجية والعلاقات التكتيكية.
العلاقات الاستراتيجية تركز بشكل أساسي على بناء علاقات مع الشعوب، المثقفين، والفئات الديمقراطية، بالإضافة إلى تطوير علاقات مع مختلف التنظيمات السياسية، والعمل المشترك معها في بعض القضايا. وحتى اليوم، يولي الحزب أكبر اهتمامه لتطوير العمل الدولي بهدف الوصول إلى الشعوب المختلفة.
أما العلاقات مع بعض الدول فقد اتخذت طابعًا تكتيكيًا، حيث تم تأسيس هذه العلاقات وفقًا لمصالح الدول المرحلية والمؤقتة. ومن الطبيعي أن هذه العلاقات لم تتعدَّ كونها علاقات تكتيكية ولم تتحول إلى علاقات استراتيجية.

ما الأسباب التي دعت الحزب إلى التخلي عن العمل العسكري؟
لقد شرحت سابقًا، ولو بإيجاز، سبب لجوء حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى الأسلوب العسكري، وكان ذلك ضرورة حتمية. لكن من جهة أخرى، كان لدى القائد أوجلان دائمًا بحث مستمر عن حل المشكلة الكردية عبر الحوار.
وبناءً على ذلك، وفي عام 1983 خلال فترة رئاسة تورغوت أوزال، تم الاعتراف بالواقع الكردي رسميًا، وبدأت بعض الحوارات لحل المشكلة. خلال هذه المرحلة، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من طرف واحد. لكن وفاة تورغوت أوزال المريبة أوقفت هذا المسار. وقد عبّر القائد أوجلان في تلك الفترة عن رغبته في وجود طرف يحاور من أجله استمرار العملية وحل القضية الكردية بالحوار. للأسف، وفاة أوزال المريبة وتوالي بعض الاستفزازات أجهضت هذه المحاولات، وعادت الاشتباكات من جديد.
في عام 1996، وبعد محاولات أخرى، أعلن حزب العمال الكردستاني مرة أخرى وقف إطلاق النار من طرف واحد، بهدف منح هذه المبادرة فرصة لحل المشكلة عبر الحوار. لكن الهجمات الشاملة التي شنها الجانب التركي أجهضت هذه الهدنة.
وفي عام 1989، وبوساطة بعض الأصدقاء، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار للمرة الثالثة، على أمل منح السلام فرصة. لكن بعد ذلك تصاعدت الهجمات العسكرية التركية ومبادرات سياسية مضادة، بالإضافة إلى دعم دولي لحركة القمع ضد الحزب.
نتيجة لهذه الهجمات، وقع مؤامرة دولية تم بموجبها اعتقال القائد أوجلان في 15 فبراير 1999، وسُجن في جزيرة إمرالي التركية.
بعد انهيار هذه الهدنة، واصل القائد أوجلان وحزب العمال الكردستاني السعي إلى السلام، معلنين وقف إطلاق النار في أعوام 1999، 2006، 2009، و2013، لكن كل مرة سرعان ما كانت الهجمات التركية تعيد الأوضاع إلى العنف، ما أدى إلى فشل هذه المساعي.
تم إعلان وقف إطلاق النار عدة مرات مع التركيز على الحوار كوسيلة لحل المشكلة. ونتيجة قبول الواقع الكردي والمقاومة ضد الإنكار، تحولت الجهود من الكفاح المسلح إلى الحوار ومحاولة حل القضية على طاولة المفاوضات.
ولقد استمر هذا الصراع المسلح الطويل ليس برغبة حزب العمال الكردستاني، بل بسبب رد فعل الدولة التركية العسكرية المتكرر على كل مبادرة لوقف إطلاق النار.
هل كان التخلي عن العمل العسكري يمثل استجابة لظروف الحزب الداخلية؟
لقد لعب حزب العمال الكردستاني (PKK) من خلال نضاله الطويل دورًا مهمًا في تحقيق الاعتراف بواقع الشعب الكردي.
فالطلقة الأولى التي أطلقها PKK كانت في الحقيقة موجهة ضد سياسة الإنكار والإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الكردي، وكانت بمثابة رصاصة ضد الفناء والنفي. ومن هذا المنطلق، أيقظ الحزب الشعب الكردي من سبات عميق، وغرس فيه روح المقاومة والتمسك بالهوية.وخلال مسيرة نضالية استمرت أكثر من 52 عامًا، قدّم الشعب الكردي وأصدقاؤه عشرات الآلاف من الشهداء. وبعد هذه المسيرة، بات من الضروري البحث عن سُبل جديدة لتحقيق الخلاص، بطريقة تتناسب مع المرحلة، بدلًا من الاستمرار في الحرب فقط.
ومع تغيّر موازين القوى في العالم وتراجع أهمية نموذج الدولة القومية، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحًا للسؤال: كيف يمكن تحقيق الخلاص بأفضل شكل ممكن؟ لقد أُسس حزب العمال الكردستاني في حقبة العالم ثنائي القطب، ومع تغيّر الظروف، برزت الحاجة إلى نموذج أكثر شمولية وواقعية.
وفي هذا السياق، أعلن القائد عبد الله أوجلان في عام 1998، قبل وقوعه في الأسر، استقالته من حزب العمال الكردستاني، بشكل علني عبر وسائل الإعلام. وكان هذا الإعلان تعبيرًا واضحًا عن الحاجة إلى تغيير جذري.
فيما بعد، أعادت حركة الحرية تنظيم نفسها على أساس المشروع الجديد الذي طوّره أوجلان، وهو “الحل الكونفدرالي الديمقراطي”. وتم تأسيس كيان جديد باسم منظومة المجتمع الكردستاني (KCK) كنظام بديل للنظام القائم.
ولكن نتيجة لبعض المشكلات الداخلية، عاد حزب العمال الكردستاني — الذي كان قد تم حله — ليتواجد ضمن هذا النظام كحزب أيديولوجي. ومع تطور وعي وتنظيم حركة الحرية كمشروع نظام متكامل، أصبح من الواضح أن حزب العمال الكردستاني قد أكمل دوره، وأن الوقت قد حان لحله بالكامل.
وبالتالي، فإن ما وصلت إليه الظروف الداخلية والخارجية اليوم، يؤكد أن حزب العمال الكردستاني — الذي تأسس تحت تأثير الاشتراكية المشيدة — قد أنهى دوره البطولي والمشرّف، وحان الوقت ليحل محله تشكيل جديد يقود مسيرة التحرر نحو المستقبل.
يتبع في العدد القادم.