العولمة.. حين يبتلع الوحشُ الكوكب

بقلم/ محمد علوش
في عصر تتكسَّر فيه الحدود على وقع الشاشات، وتتهاوى الجغرافيا أمام الزحف الرقمي والاقتصادي، ترفع رايةٌ واحدة بلون الدولار، وتسمَّى باسمٍ ناعمٍ، العولمة، لكنها، في جوهرها، ليست إلا قناعًا حريريًّا ليدٍ فولاذية، تكتب التاريخ بمنطق الربح، وترسم الخريطة بمسطرة القوة.
إنها عولمة أمريكية، لا تشبه الوعد البشري الجميل بتبادل الثقافات وتلاقح الأفكار، بل تمضي كإعصار منظم، يعصف بما تبقَّى من سيادة الشعوب، ويعيد صياغة العالم على مقياس رأس المال، حيث السوق هو المعبد، وواشنطن هي الكاهن الأعلى.
تشهر أمريكا سيفها الناعم عبر الشركات العابرة للقارات، والمؤسسات المالية، والمنصَّات الرقمية، بينما تخفي في الظلال جيشًا جرَّارًا من القواعد العسكرية، والعقوبات، والانقلابات الموجَّهة، ومتى ما تجرأت دولة على الخروج من عباءتها، كما فعلت الصين، بدأت الأبواق تصرخ: “ديكتاتورية”، “خطر على الديمقراطية”، و”تهديد للنظام العالمي”.
لكن الصين، بتريليوناتها الهادئة، تسير على طريق مواز، لا تدق فيه الطبول، لكنها تبني الجسور والموانئ والقطارات العابرة للقارات، وهنا ترتبك واشنطن؛ فخصمها ليس طائشًا، بل براغماتيًّا وهادئًا كالنهر، قويًّا كالجبل، لا يلوّح بالسلاح، بل يفتح دفتر الحسابات.
أما في المنطقة العربية، فالحكاية أشدُّ مرارة، فهنا، العولمة الأمريكية ليست اقتصادية فقط، بل استعمارية الهوى، صهيونية القلب، تدجَّن العقول عبر إعلام مسموم، وتحرَّف البوصلة، ليصبح العدو صديقًا، والصديق تهديدًا.
وفلسطين، قلب القلب، جرّدت من اسمها، من ترابها، من دمها الذي سال، حتى كادت تختزل في نشرة أخبار، أو في “مشكلة حدود” كما يقول الغرب، لكن أمريكا لا ترى في فلسطين إلا ساحة اختبار لولائها لإسرائيل، وتربة خصبة لمشاريعها الأمنية والاستخباراتية.
إن النفوذ الأمريكي في منطقتنا لا يزدهر إلا حين يضعف الوعي، وتغيب الإرادة، وتكسر النخب أو تُشترى، وتلك ليست سياسة، بل استعمارًا ناعمًا يرتدي بدلة أنيقة، ويتحدث باسم “الحرية” و”حقوق الإنسان”، بينما يدعم أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث.
لكن الزمن لا يسير في اتجاه واحد، والوعي لا يُؤسَر إلى الأبد، فالعالم، وإن بدا خاضعًا، يغلي تحت السطح، والشرق، الذي تظنه واشنطن أطلالًا من الرمل والنفط، ما زال ينبض بالأمل، وبالرفض، وبالقصيدة المقاتلة.
إن مواجهة العولمة الأمريكية ليست رفضًا للحداثة، بل دفاعًا عن التنوُّع وحقِّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهي ليست معركة الصين وحدها، بل معركة كل من لا يريد أن يتحول وطنه إلى سوق أو قاعدة أو ملحق في كتاب التاريخ الأمريكي.
فليكن لنا صوت لا يشوَّش، وهوية لا تمحى، وعين ترى ما خلف الستار، فالعولمة، حين تترك دون مساءلة، تتحول من فرصة إلى فخ، ومن تلاقٍ إلى استعمار جديد، ومن وعد بالوحدة إلى سلاح من أسلحة التفرقة والتبعية.