مقالات الرأي

البريكس وإعادة صياغة القواعد الدولية “الجزء الثاني”

بقلم/ عبد الفتاح الشريف

تسعى مجموعة البريكس إلى تعزيز دورها الاقتصادي العالمي وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة والمعاملات الدولية، حيث تضافرت مجموعة من العوامل في تعزيز مكانة الدولار وهيمنته على الاقتصاد العالمي نتيجة مزيج من القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، إضافة إلى عوامل تاريخية واستراتيجية، وقد عزز الاستقرار السياسي والاقتصادي الأمريكي بالإضافة إلى دور المؤسسات الدولية والنظام المالي العالمي من قوة الدولار الذي يواجه بعض المنافسة من اليورو واليوان الصيني، إلا أنه لا يزال العملة المهيمنة بسبب إرثه التاريخي، وبسبب قوة الاقتصاد الأمريكي، ومن أبرز الأمثلة على هيمنة الدولار على المدفوعات الدولية أن 50 % من التجارة الدولية تتم بالدولار الذي يمثل 58 % من الاحتياطيات في العالم.

وسنحاول في هذا المقال أن نشير إلى العوامل التي قد تعزز فرص نجاح ما يسعى إليه تكتل البريكس من محاولات لتشجيع التجارة الثنائية باستخدام العملات المحلية بدلًا من الدولار، وهو من أكثر أهداف المجموعة طموحًا وتعقيدًا، حيث شهدت السنوات القليلة الماضية ارتفاعًا في وتيرة تسوية المعاملات البينية بالعملات المحلية، كما هو الحال بين روسيا والصين بالروبل واليوان، كما بدأت الهند في استخدام الروبية في معاملاتها مع بعض الدول، وذلك لأن المجموعة تتمتع بإمكانيات كبيرة تساعدها في تقليص هيمنة الدولار على التجارة الدولية، خاصة إذا استمرت في تعزيز التجارة بالعملات المحلية وتطوير مؤسسات مالية بديلة عن المؤسسات الغربية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تم بالفعل تأسيس بنك التنمية الجديد NDB وإطلاق أدوات مالیة مقومة بعملات غير الدولار.

وقد شجع نجاح الصين في تقوية عملتها الوطنية تكتل البريكس على مواصلة السعي في تقليص هيمنة الدولار على المعاملات الدولية بعد أن تم اعتماد اليوان كعملة احتياطية عالمية حين أدرج صندوق النقد الدولي اليوان في سلة حقوق السحب الخاصة SDR كما يتوقع أن يؤدي توسيع البريكس وانضمام السعودية رسميا بعد انضمام الإمارات إلى زيادة فرص استخدام العملات الوطنية في التجارة.

ويعد نظام البريكس باي Brice Pay الذي تم الطرق إليه في العدد السابق والذي قررت القمة الأخيرة استحداثه كبديل لنظام السويفت اختبارًا حقيقيًّا لإرادة التكتل، وذلك لأن نجاح هذا النظام في خفض تكلفة التحويل بين العملات المحلية مثل (الروبل – روبية أو يوان – ريال) سيعزز الفرص في تقليص هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي وهذا النظام لا يقل أهمية عن المقترح الذي تم عرضه على القمة الأخيرة بإنشاء صندوق النقد المشترك Brics Reserve Pool بقيمة 100 مليار دولار لدعم سيولة العملات المحلية لدول المجموعة في أوقات الأزمات والذي تم تأجيل البت فيه إلى القمة القادمة، ويتوقع أن ينتج عن توقيع المزيد من اتفاقيات تبادل العملات Swap Lines وتوسيع شبكة الاتفاقيات الثنائية مثل (الصين – البرازيل والهند – الإمارات) إلى تجاوز الدولار في المدفوعات الثنائية.

ولعل من أهم العوامل التي قد تعجل بتقليص هيمنة الدولار هو استخدام العملات الأخرى في تجارة السلع الأساسية التي تنتجها أو تستوردها دول المجموعة، مثل النفط والغاز (الصين، روسيا، الإمارات، نيجيريا، كازاخستان)، كما تعتبر البرازيل من أكبر منتجي ثلاث سلع رئيسة (خام الحديد، والقهوة، والسكر)، وفي نفس السياق تعد روسيا من كبار المصدرين للسلع الغذائية، مثل القمح والزيوت النباتية، بينما تعتبر الصين أكبر منتج للمعادن النادرة (تعدينًا واستخلاصًا)، كما تنتج دول المجموعة نسبة حاكمة من إنتاج الذهب في العالم (الصين، روسيا، جنوب أفريقيا)، وبهذا فإن استخدام عملات دول تكتل البريكس في تجارة السلع الأساسية سيؤدي حتما إلى تقليص هيمنة الدولار في حالة اتساع دائرة تبادلها بعملات غير الدولار.

وقد شجع الاتفاق الصيني السعودي دول التكتل على تبني استعمال عملات دول التكتل في تسوية المعاملات التجارية بين دول المجموعة حيث تم بموجب هذا الاتفاق تسوية 80% من صفقات النفط السعودي باليوان الصيني علما بان الصين تستورد يوميا 10 ملايين برميل من النفط الخام من عدة دول بينها السعودية وروسيا والإمارات وإيران، ويتوقع أن يصل استهلاكها اليومي إلى 16 مليون برميل بحلول عام 2035.

وتسعى دول المجموعة إلى الضغط على منظمة الأوبك بالقبول بالروبل أو اليوان في صفقات الطاقة التي ستضعف اتفاق البترودولار في حالة موافقة دول الأوبك على ذلك (البترودولار هو أداة النفوذ السياسي والاقتصادي الأمريكي) التي عززت من هيمنة الدولار في سبعينيات القرن الماضي.

وفي ختام هذا المقال نستعرض الصعوبات والتحديات التي تواجه دول البريكس في حملتها من أجل تقليص استعمال الدولار في المعاملات الدولية، ومن أهم هذه التحديات هيمنة الدولار الحالية على 58% من احتياطات النقد الأجنبي وعلى نحو 50% من التجارة الدولية واعتماد الأسواق المالية العالمية بشكل كبير على الدولار، وكذلك ضعف تكامل البنية المالية لدول البريكس وعدم جاهزيتها بشكل كاف لدعم عملاتها كبديل للدولار، خاصة في عدم وجود عملة موحدة أو نظام مالي مشترك لدول البريكس، كما توجد عوامل أخرى تبطئ عملية تقليص هيمنة الدولار، من بينها التقلبات السياسية والاقتصادية في دول البريكس مقارنة بالاستقرار السياسي والاقتصادي النسبي في الولايات المتحدة، ما يضعف ثقة المتعاملين في عملاتها.

وبهذا نخلص إلى أنه بالرغم من امتلاك البريكس أدوات نجاح حقيقية (حجم سكاني ضخم وموارد طبيعية وإرادة سياسية قوية) تمكنها من التغلب على العقبات الهيكلية لأن الدولار ليس مجرد عملة، بل هو نظام سياسي واقتصادي وعسكري متجذر، وسيكون بمقدور البريكس أن تحرز تقدمًا تدريجيًّا وفقًا لخطتها التي تهدف إلى تعزيز التجارة الثنائية بالعملات المحلية في المرحلة الأولى (2025-2027) وإطلاق عملة سلة رقمية أو ذهبية في المرحلة الثانية ( 2028-2030 )، وإذا ما استمرت دول المجموعة في ممارسة الضغط الجيوسياسي المشترك وتفادت الانقسامات الداخلية، فإنه من الممكن أن تشهد تحول ما لا يقل عن 20% من التجارة العالمية بعيدًا عن الدولار بحلول سنة 2030، وهذا سيكون زلزالاً في النظام المالي الدولي حتى لو استمرت هيمنة الدولار على المعاملات الدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى