استفهامات في زمن التراجع الثقافي

بقلم/ المهدي الفهري
من المسؤول عن غياب الثقافة؟ لماذا يخفت صوت الثقافة إلى هذا الحد المخجل ويضعف منسوبها إلى مستوياته الدنيا؟ ولماذا يتقاعس المثقفون عن رفع مستوى التفكير لدى باقي شرائح المجتمع؟ وكيف يمكن للمجتمعات أن تعيش بدون نخب واعية تنير لها الطريق وتقربها من الحقيقة وتخفف عنها أعباء الحياة؟ وهل تستغني المجتمعات عن أصحاب التفكير العالي وذوي الخبرات والمهارات المميزة وعمن يشجعها على الإبداع ويحفزها على المحاكاة؟ وما الذي يمكن فعله لمواجهة هذا الاكتئاب المجتمعي والاغتراب النفسي الذي تحول الى انكفاء ذاتي فظ؟ أين من يزرعون بذور الوعي في زمن بلا وعي يتخلى فيه الجميع عن مسؤولياتهم الأساسية ويعكفون على مصالحهم الشخصية الضيقة؟
تلك أسئلة بلا أجوبة في زمن بلا هوية وتساؤلات متلاحقة كنمط تفكيري يطرح حول تراجع الثقافة وانسحاب المثقفين وتأثير ذلك على الوعي العام واستعراض للصراع الداخلي للإنسان عبر حالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي وتسليط للضوء على القلق الوجودي من الماضي والمستقبل وما بينهما والبحث عن معنى في عالم مادي قاسِ ووسط حقيقة ثابتة تُقر بأن أكبر معركة يخوضها الإنسان في حياته هي معركته مع نفسه وداخل كينونته، وكل ما عداها من معارك نابع من هذه النفس البشرية المتقلبة والمثقلة بالخطايا والآثام والمليئة بالمتاعب والهموم التي تتجاذبها تارة نزعة الخير والإصلاح وترتقي بصاحبها إلى مدارج الكمال، وتارة أخرى نزعة الشر والفساد وتهوي به إلى درك الانحطاط، ومن خلالهما تتحدد منزلة كل شخص حسب قربه من أحد الطرفيين.
وفي وقت تتشابك فيه الأفكار وتتضارب فيه الآراء ويزداد صراعنا مع ذواتنا ونحن نبحث عبثًا عن مخرج للنجاة ينقذنا من أنفسنا قبل أن ينقذنا من غيرنا، وقد سئمنا التكرار وتتبع أسرار الماضي بكل حقائقها وأباطيلها، وصرنا نخاف المستقبل وما يحمله من غموض ومفاجآت، بل تحولنا إلى زمن لا نثق فيه بماضينا ولا نطمئن معه بمستقبلنا، ولا نجد ملازمًا لنا غير الشك وعدم اليقين، إنه نزاع شرس لا يتوقف إلا بتوقفنا عن الحياة وصراع داخلي لا يهدأ إلا بتحررنا من الخوف ومن الوهم ومن الأنانية وإعادة السيطرة على عواطفنا قبل أن تغرق عقولنا في الفوضى ونتحول إلى أشباح نعيش بلا حياة ونموت بلا إحساس ونتحرك كالكائنات البيولوجية التي لا تعرف سوى صراع القوة والنفوذ، حيث يلتهم القوي الضعيف، ويقبع الإنسان في فوضى المادة وخواء الروح، وتقع الثقافة في أزمة، ويصمت العقل وتختفي النخبة.. وهكذا يصبح المفكر غريبًا والتفكير ترفًا ويتفكك الوعي في زمن الهزائم والانحدار وتنصهر الثقافة في حضارة الاستهلاك، ونفقد القدرة على الفهم والتحليل والاستدراك، ونحيا حياة روتينية خالية من الأهمية والمعنى والقيمة وتعم اللامبالاة الكبرى كل الميادين.