هراويات

بقلم/ خليفة احواس
(1)
لم تكن بهراوة التي تعج اليوم بالمدارس إلا مدرسة واحدة، اسمها الرسمي بعد الاستقلال (مدرسة أولاد سليمان)، وهي التي مر بها معظم أعمار الخمسينات والستينات، درست بها وتعلمت بها الإملاء والخط، كانت أمي تصطحب وحيدها في الأيام الأولى لتعلّمه وتنتظره، ولا توكل هذه المهمة لغيرها، كنت أكتب واجباتي على ضوء الفنار، نمشي جميعا لتلك المدرسة من كل نواحي هراوة على أرجلنا، لم تكن بها سوى سيارتين في ذلك الوقت (مفتاح احتيوش وعلي بن مسعود)، كنا هراويين تظلنا طيبة الاسم، لا نعرف بيوتًا وكنيات، نفزع للمصاب ونخجل من الكبير، لم تكن هناك (شبارق) اليوم التي تقسم القلوب باسم الأراضي.
عشت تلك الأيام بكل ذكرياتها لأكتشف أنني لا أملك شبرًا فيها (القسمة الضيزى)، بعد حصولي على إتمام الشهادة الابتدائية لم تكن هناك إعدادية ب هراوة، مما اضطرني إلى الغربة صغيرًا بالقسم الداخلي بسرت بضوابطه التي لم أعهدها، حتى فتحت بالعام التالي أول إعدادية ب هراوة، بجهود المرحوم الحاج قريرة مرعي مراقب تعليم سرت، كان اسمها الزبير بن العوام قبل أن تتحول إلى سيف النصر، سعدنا بتلك الفترة بقدوم أول فوج مدرسين هراويين، الثلاثي (امبارك والسنوسي الزادميين ومصباح محمد علي الجامعي) حسب لغة اليوم، وتوالت الأيام، تلك هي المدرسة التي كتب حولها أستاذي حامد شاكر (امبارك بوخزام) أول من جاء بذلك الفوج الذي ذكرت. (رحم الله أمي وأبي الأميين اللذين علماني القراءة والكتابة، احتضنا ضعفي بمحبة، منحاني بطاقة الرضا ما مكني من المسير رغم الأشواك التي اعترضني وبعض البشر الذي ساهم بغرسها)
(2)
كنا نمشي مترجلين إلى مدرسة الزبير (عبدالجليل اليوم) عديد الكيلومترات تحت الشمس وتحت المطر، نتعايش مع كل أنواع الطقس، أضف إلى ذلك أننا بالمساء نبر والدينا فعلًا لا قولًا، مباشرة وليس بالنقال، نجلب الماء ونرعى الغنم، ونخاف أن يرانا معلمونا بالأسواق، كان الأب معنى وعنوانًا والأم مرفأ وجنانًا، كنا نوقر كبيرنا ونقبل رأسه بالعيد ونحتضن أمهاتنا بلحافهن الوردي الجميل، كانت أمي توصيني (ألعب وحدك ما تشك)، وهو ما عرفت معناه إلا اليوم.
كان والدي يردد على مسمعي (الرفيق قبل الطريق) وأحيانا (دمك سمك)، كنا متحابين في الله، نقابل الضنك بابتسامة، ننام ملء جفوننا، نعيش ليومنا ونصحو لمستقبلنا، لم نشعر بالقلق كالبعثة الأممية، إن شعرنا به فهو قلق حقيقي وعميق ليس كشعورها، فقد علمنا أهلنا أيضًا (عدوك ما يبقالك صاحب).. اليوم نتأمل أبناءنا وأحيانا أحفادنا وأسئلة كثيرة تحاصرنا والحسرة تسكننا، من يعيد سيرتنا الأولى؟