معاداة السامية المصطلح الذي احتكر الألم وكمَّم الأفواه

بقلم/ فرج بوخروبة
في عالمٍ تتداخل فيه السياسة بالتاريخ، وتُعاد فيه صياغة المفاهيم لتخدم مصالح محددة، يبرز مصطلح “معاداة السامية” كواحد من أكثر المصطلحات إثارة للجدل، ليس فقط بسبب دلالاته اللغوية، بل لما يحمله من حمولات أيديولوجية وأخلاقية تُستخدم لتبرير سياسات، وإسكات أصوات، وتوجيه الاتهامات.
منذ أن صاغ الصحفي الألماني “فيليهم مار” هذا المصطلح عام 1879، لم يكن الهدف توصيف حالة اجتماعية، بل خلق هوية عرقية لليهود تفصلهم عن باقي المجتمعات الأوروبية. فاليهود، الذين كان يُنظر إليهم كمجموعة دينية، تحوّلوا فجأة إلى “عرق” يُهدد نقاء الأمة الألمانية، بحسب رؤية مار. وهكذا بدأت أولى خطوات تحويل اليهودية من ديانة إلى إثنية، ومن جماعة دينية إلى جماعة عرقية يُنظر إليها كخطر بيولوجي.
لكن هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل امتدادًا لتاريخ طويل من الاضطهاد الأوروبي لليهود. في العصور الوسطى، عاش اليهود في غيتوهات مغلقة، مُنعوا من ممارسة المهن، واتُهموا بنشر الأوبئة وقتل المسيح. مذابح راينلاند، الطرد من إنجلترا، محاكم التفتيش الإسبانية، كلها محطات في سردية الألم اليهودي. ثم جاءت النازية لتُضفي على هذا العداء طابعًا ممنهجًا، حيث اعتبر هتلر اليهود خطرًا بيولوجيًّا على العرق الآري، وأطلق مشروعه الإبادي المعروف بالهولوكوست، الذي أودى بحياة أكثر من ستة ملايين يهودي بحسب ادعاءات الحركة الصهيونية.
لكن السؤال الذي يُطرح اليوم: هل يُمكن استخدام هذا التاريخ كذريعة لإسكات الحاضر؟ وهل يُسمح للألم أن يُعاد تدويره إلى خطاب حصري يُعفي طرفًا من النقد ويُدين الآخر لمجرد مخالفته؟
في العقود الأخيرة، تحوَّل مصطلح “معاداة السامية” إلى بطاقة أخلاقية خاصة، لا يُمنحها سوى طرف واحد، ولا يُحاسب عليها سوى المخالفين. الصحفيون، المفكرون، الفنانون، وحتى الأكاديميون، يواجهون خطر التصنيف، لا لمواقفهم العنصرية، بل فقط لأنهم لم يكتبوا ضمن “اللغة المقبولة دوليًّا”.
فأن تقول “أنا ضد سياسة الاحتلال”، فأنت فجأة “معادٍ للسامية”. وأن تنتقد إسرائيل باعتبارها كيانًا سياسيًّا، لا جماعة دينية، فهذا يعني أنك تجاوزت الخط الأحمر، حتى لو كنت يهوديًّا!
المفارقة الأكثر عبثًا أن العرب أنفسهم يُعتبرون من الشعوب السامية، ومع ذلك يُتهمون بمعاداة السامية! كيف يُعادِي الإنسان ذاته؟ هذا التناقض يكشف عن التحريف المفاهيمي الذي تعرض له المصطلح، وتحويله من توصيف لغوي إلى أداة أيديولوجية تُستخدم لإسكات الأصوات المعارضة.
في المقابل، كانت المجتمعات الإسلامية، من الأندلس إلى بغداد، تشكِّل ملاذًا آمنًا لليهود الهاربين من الاضطهاد الأوروبي. فقد اعتُبروا “أهل ذمة”، يتمتعون بالحماية القانونية مقابل جزية رمزية، وشاركوا في الحياة الاقتصادية والثقافية، وبرز منهم علماء وفلاسفة مثل موسى بن ميمون.
هذا التناقض التاريخي يُظهر أن معاداة اليهود لم تكن ظاهرة عالمية، بل أوروبية بامتياز، وهو ما يُفنِّد الادعاء بأن العرب والمسلمين يُعادون اليهود كجماعة دينية.
ومع صعود الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ استغلال مفهوم “معاداة السامية” كأداة سياسية. رأى مفكرو الصهيونية، مثل “ثيودور هرتزل” و”ليو بنسكر”، أن العداء الأوروبي لليهود يُشكِّل مبررًا لإنشاء وطن قومي لهم، فتم تصوير اليهود كضحايا دائمين، وأن الحل الوحيد هو فصلهم عن المجتمعات الأوروبية.
لكن بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، تحوَّل المصطلح إلى درع أيديولوجي يُستخدم لتبرير السياسات الإسرائيلية، واتهام كل من ينتقدها بأنه “معادٍ للسامية”، حتى لو كان النقد سياسيًّا أو حقوقيًّا.
في أوروبا، شُرِّعت قوانين تُجرِّم إنكار الهولوكوست أو انتقاد إسرائيل، وأُنشئت مؤسسات تُراقب الخطاب العام، وتُصنِّف كل من يخالف الرواية الرسمية بأنه “معادٍ للسامية”.
حتى داخل المجتمع اليهودي نفسه، يُتهم المعارضون للصهيونية بمعاداة السامية. جماعة “ناطوري كارتا”، وهي جماعة يهودية أرثوذكسية تُعارض قيام دولة إسرائيل، تُواجه حملات تشويه واتهامات بالعداء للسامية، فقط لأنها ترفض الخلط بين الدين والسياسة.
هذا الاستخدام المفرط للمصطلح جعله سلاحًا أخلاقيًّا يُستخدم لتبرير الاحتلال، وقمع حرية التعبير، وفرض رواية واحدة للتاريخ.
فالمفكر الفرنسي “روجيه جارودي” حوكم بسبب كتابه “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”، والرئيس الماليزي السابق “مهاتير محمد” اتُهم بالعداء للسامية لمجرد انتقاده للجرائم الصهيونية، وحتى “مايكل جاكسون” واجه اتهامات مشابهة بسبب تسجيل صوتي نُسب إليه!
إن واجبنا الأخلاقي اليوم ألا نكتفي باستذكار الألم، بل أن نرفض استخدامه كذريعة لتشويه الحاضر.
فالمصطلح حين يُحتكر، يصبح أداة أيديولوجية، لا توصيفًا موضوعيًا. والموقف حين يُجرّم، يفقد العالم منطقه، وتتحوَّل الحرية إلى امتياز نخبة، لا حق للجميع.
إعادة تعريف “معاداة السامية” تبدأ من لحظة رفض الخلط المتعمد بين العنصرية تجاه اليهود والنقد السياسي لإسرائيل. وبين الدفاع عن إنسان وبين الدفاع عن سياسة. إنها لحظة يُستعاد فيها المعنى، لا ليُلغى الألم، بل ليُحرَّر الحوار.
فليس كل من ينتقد إسرائيل معاديًا للسامية، وليس كل من يُدافع عن اليهود بريئًا من العنصرية.
المطلوب اليوم ليس فقط تفكيك المصطلح، بل تحريره من قبضة الأيديولوجيا، وإعادته إلى سياقه الإنساني، حيث يُصبح أداة لفهم التاريخ، لا لتشويهه، ولحماية الإنسان، لا لتبرير الظلم.