مقالات الرأي

عندما كانت الأحلام في حدودها القصوى!!

بقلم/ مصطفى الزائدي

صباح يوم 18 يوليو 1973، وفي عرسٍ شعبي، انطلقت من رأس جدير المسيرة الوحدوية التاريخية التي نظمتها اللجان الشعبية في ليبيا، متجهة إلى القاهرة، للمطالبة بتنفيذ اتفاقيات الوحدة الاندماجية وتفعيل اتحاد الجمهوريات العربية.

كانت ليبيا حينها قد أعلنت الثورة الشعبية، حيث تشكلت بالانتخاب المباشر لجان شعبية لإدارة الدولة، حلت محل الإدارات الحكومية في كافة المناطق والمؤسسات.

كان يومًا مشهودًا ومشهدًا حماسيًّا رائعًا؛ آلاف المشاركين انطلقوا من رأس جدير صباحًا، ثم التحمت بهم الجماهير من كل مناطق الغرب الليبي، فوصلت طرابلس عشرات الآلاف من المشاركين الذين واصلوا المسير شرقًا لتنضم إليهم ألوف أخرى. كانت الترتيبات تقضي بتجمع الناس في بنغازي يوم 19 يوليو، ثم يواصلون الرحلة الميمونة صباح 20 يوليو باكرًا، متجهين إلى مصر، وقد جهزت مواقع للإقامة في منطقتي تيكا والخضراء.

مساء يوم 19 يوليو، وقبيل غروب الشمس، كانت آلاف السيارات تغطي الطريق الساحلي، وحاول المنظمون إيقافهم للراحة دون جدوى؛ إذ لم يُعر المشاركون اهتمامًا لفكرة المبيت في بنغازي، وواصلوا الاندفاع شرقًا، وربما كان ذلك فعلًا هو الخيار الأمثل.

مرور هذا الكم الكبير من المشاركين وسط شوارع بنغازي من مساء 19 يوليو إلى صباح 20 يوليو، كان جهدًا تعبويًّا عمليًّا لجماهير المدينة، التي التحمت بالمسيرة فجر اليوم التالي بأعداد كبيرة.
كان الرفيق عمار الطيف يقود سيارة الفولكس التي استخدمناها في الحملة التعبوية بعد إعلان الثورة الشعبية. وتمكنا من السير في مقدمة المسيرة التاريخية بفضل المرحوم حسن الكاسح، الذي كان مكلفًا بمرافقتها، وعبرنا هضاب الجبل الأخضر. لم يكن بحوزتنا سوى المياه، ولم نحمل معنا أية مواد غذائية. وصلنا مساء إلى درنة، ومررنا على المرحوم فرج بلها والأخ يوسف بن عمران، حيث تناولنا عشاءً خفيفًا وواصلنا المسير إلى أمساعد، التي وصلناها ليلًا.

في أمساعد، كان الجو متوترًا جدًا؛ إذ أغلقت السلطات المصرية منفذ السلوم. عقدت لجنة التنظيم اجتماعًا على أضواء القمر لترتيب الخطوة القادمة. حضر محافظ مطروح ومدير الأمن، وطلبا لقاء المسؤولين عن المسيرة. وقع اختيار الإخوة على المرحوم إبراهيم البشاري، وعمار الطيف، والعبد الفقير إلى الله، لمقابلتهما وفهم ما يحملانه من اقتراحات وآراء.

كانا مدركين لأهمية وحساسية الوضع، ومتفهمين لطبيعة مشاعر الناس في المسيرة، وصعوبة اتخاذ قرار في هذا الجو المفعم بالحماس. وكان لقاؤنا وديًّا وأخويًّا. وقد لخَّصنا طلباتنا في أن المحتشدين في المسيرة يصرون على الاحتفال مع أهلنا في مصر بذكرى ثورة 23 يوليو، وإظهار التضامن مع مصر وجيشها وقيادتها في معركتها التاريخية دفاعًا عن الأمة، وأن نضع إمكانات ليبيا مع مصر، ونسعى إلى تسريع الوحدة الاندماجية بين البلدين.

ردهما كان منطقيًّا جدًّا؛ إذ أوضحا أنهما يتفهمان نوايانا ويقدران مشاعرنا، لكن هناك مؤامرات كثيرة تحاك ضد مصر، وفي حال وصول المسيرة إلى القاهرة، فقد تُستغل من قبل قوى معادية وتُحدث اضطرابات. اقترحا أن تستقر المسيرة في مطروح، وتأتي كوادر من الاتحاد الاشتراكي للقاء والتحدث مع المشاركين، وهكذا يتحقق هدف المسيرة ونتجنب أية مشاكل جانبية.

كان عرضًا جيدًا، لكن حماسة المشاركين دفعتنا لرفضه، وكان من الممكن أن يحول المسيرة إلى حدثٍ إعلامي مهم في مصر وخارجها. قلنا لهم: هذه هي إرادة اللجان الشعبية، وأن المشاركين مصرُّون على الوصول إلى القاهرة، ومن الصعب تغيير قرارهم.
لقد كان ذلك قرارًا خاطئًا في حينه، وكان يمكننا الاستفادة من عرض المحافظ لفتح حواراتٍ جدية ومعمقة مع الكوادر المصرية التي كانت مستعدة لذلك. أعتقد أن العاطفة كانت هي المسيطرة علينا في ذلك الوقت.

مع ساعات الفجر من يوم 21 يوليو، صبَّ مواطن صاحب بلدوزر غضبه على البوابة في أمساعد، وهدمها، وسط هتافاتٍ تعانق عنان السماء، في تلك الصحراء المرتوية بدماء الأجداد الذين فصلهم الاستعمار ومنعهم من التواصل إلا عبر اختراق الأسلاك المميتة.
زحفت السيارات المليئة بالناس، المزدانة بأعلام اتحاد الجمهوريات العربية، الذي ولد ميتًا ولم يرَ النور منه إلا العلم، وشركة نقل اتحادية، ومجلس أمة صوري، نحو بوابة السلوم، وكانت تعليمات محافظ مطروح ومدير الأمن واضحة: تسهيل مرور المسيرة دون تعقيد.

عندما خرجت من القسم الداخلي مساء 18 يوليو، لم آخذ معي أي غرض. كنت أرتدي بنطال جينز وقميصًا بنصف كم. قضينا وقتًا طويلًا من الليل في محاولة إقناع المشاركين بالمبيت في منطقة تيكا، لكن دون جدوى. بقيت الخيام خاوية.

غلبنا النعاس فنمنا سويعات، حتى أيقظتنا شمس صيف بنغازي الحارقة. وعلى عجل، وبدون طعام، توجهنا إلى ميدان الشجرة، حيث تتجمع جماهير بنغازي المشاركة، وغادرنا معها دون أن ندري أننا سنقطع فيافي وبلدانًا، ونجتاز حدودًا ومطارات.

قبيل أن نصل إلى درنة، فتشت جيبي، فإذا به خاوٍ: لا نقود، لا بطاقات. تذكر الأخ عمار أن عليه تفتيش جيوبه، فلم يجد سوى رخصة قيادة خاصة وكتيب السيارة. لم نشغل بالنا بالأمر وكأنه شأن عادي. لم يتبادر إلى أذهاننا كيف نسافر لأيام دون ملابس أو نقود أو وثائق؟ الحقيقة أن حماسة انطلاق المسيرة أنستنا كل شيء.

كانت تلك ساعاتٍ مجيدة، حدث فيها فعلٌ تاريخي قد لا يتكرر. كانت تدور في أذهاننا فقط صور تلك الألوف المؤلفة، والحناجر التي تهتف للوحدة، وكنا نتخيل أي زلزال قد يهز الأمة يوم تفرض الجماهير وحدتها بين شعبٍ واحد، وكنا نرسم في مخيلتنا صورة الجماهير العربية في مصر وهي تخرج بالملايين لتفرض مطالبها بالوحدة.

لم نكن نعلم أننا سنتضور جوعًا، وأننا سنحتفظ بملابسنا التي بدأت تتسخ على جلودنا لأسبوع كامل تقريبًا.
في منطقة فوكه، اضطرت السلطات المصرية إلى قطع الطريق وإيقاف المسيرة.

نداء من القائد الشهيد اضطر المسيرة إلى العودة من حيث أتت، وتشكل وفد لمقابلة الرئيس السادات، كنت أحد أعضائه، وفي ذلك حديث آخر…

زر الذهاب إلى الأعلى