سقوط آخر لجدار السيادة العربية

بقلم/ عثمان الدعيكي
في تطور خطير وغير مسبوق في مسار العدوان على سوريا، شنت طائرات الاحتلال خلال الأيام الماضية غارات مباشرة على مواقع حساسة في قلب العاصمة دمشق، طالت محيط القصر الرئاسي ووزارة الدفاع، فيما يمكن وصفه بأنه تصعيد مقصود واستهداف لرمزية الدولة السورية وسيادتها. هذا الاستهداف لم يكن اعتياديًّا أو مجرد جزء من سلسلة الضربات الصهيونية المتكررة في الداخل السوري، بل حمل في توقيته ونوعيته رسالة سياسية بالغة الدلالة، خصوصًا أنه جاء عقب حملة قمع عنيفة نفذتها قوات ما يسمى بالأمن السورية ضد أبناء الطائفة الدرزية في محافظة السويداء، الذين خرجوا في احتجاجات سلمية تطالب بالحقوق والخدمات وترفض الفساد وانهيار الوضع المعيشي.
في خضم هذه التوترات الداخلية، جاءت الضربات لتظهر تل أبيب كلاعب إقليمي لا يتورع عن التدخل المباشر في سوريا، مستفيدة من الانقسام المجتمعي ومن هشاشة الدولة التي فقدت منذ سنوات قدرتها على ضبط السيادة، فضلًا عن الانكشاف الأمني والسياسي الذي تعانيه دمشق. اللافت أن الغارات لم تستهدف مواقع مرتبطة بإيران أو بأذرعها كما جرت العادة، بل اختارت مواقع سيادية مركزية تمثل قمة الهرم السياسي والعسكري في الدولة السورية، ما يشير إلى أن الرسالة هذه المرة تتجاوز الأبعاد الأمنية، لتصل إلى محاولة فرض قواعد اشتباك جديدة تتضمن ترهيب النظام السوري وتأكيد قدرة الكيان على الوصول إلى أي نقطة في الداخل السوري متى شاءت.
ولا يمكن فصل هذا التصعيد عن السياق الإقليمي العام، خاصة بعد المواجهة المحدودة التي اندلعت بين إيران والكيان الصهيوني مؤخرًا، والتي شهدت ضربات مباشرة بين الطرفين. فتل أبيب اليوم تستثمر هذا المناخ التصعيدي لتوسيع مساحة تدخلها العسكري في المنطقة، مدفوعة بدعم أمريكي وغربي، وبتراخٍ عربي وصل إلى حدِّ الصمت الكامل، حتى عندما يتعلق الأمر باستهداف عواصم عربية ومواقع سيادية يُفترض أنها تمثل خطوطًا حمراء في الأعراف السياسية والدبلوماسية.
الأكثر إثارة للقلق هو الموقف العربي، وخصوصًا الخليجي، الذي اتسم بالصمت تجاه هذا العدوان الصارخ. فلم تصدر إدانات توازي حجم الاعتداء، ولا تحركات دبلوماسية تواكب خطورته، وكأن الأمر لا يعني هذه العواصم بشيء. وهو ذات الموقف الذي يتكرر يوميًّا مع ما تقترفه دولة الاحتلال من مجازر مروعة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث تستمر آلة القتل والدمار والحصار وسط سكوت عربي يخلو حتى من بيانات الشجب التقليدية.
المفارقة المؤلمة أن هذا الصمت لا يأتي فقط من العجز، بل يتقاطع مع مسار تطبيعي مستمر من قبل بعض الأنظمة العربية وخاصة الخليجية مع الكيان الصهيوني، رغم كل ما يحدث من جرائم وقتل واستهانة بالسيادة والكرامة العربية. وكأننا أمام واقع جديد تتماهى فيه مصالح الأنظمة مع استباحة الأرض والإنسان العربي، تحت ذرائع واعتبارات تروج لها بعض العواصم التي باتت ترى في العلاقة مع الكيان الغاصب “ضمانة” لأمنها في وجه مخاوف إقليمية أخرى، وعلى رأسها إيران.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذا المقال، ورغم انطلاقه من رؤية قومية ترفض بشكل قاطع الاعتداء الصهيوني على السيادة السورية، لا يرمي لتبرئة النظام السوري الحالي أو الدفاع عن ممارساته، بل يؤكد اختلافنا بوضوح مع من يقودون سوريا اليوم، ونرى في طريقة وصولهم إلى السلطة وسياساتهم الداخلية والخارجية من ضمن الأسباب الأساسية في تدمير سوريا وإخراجها من منظومة الممانعة العربية. كما لا يمكن إغفال الدور الذي لعبه من أوصلوا هذا النظام إلى السلطة، وهو دور ساهم بشكل مباشر في تفكيك الدولة وتحويلها إلى ساحة مفتوحة أمام التدخلات الخارجية.
لكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن استهداف دولة عربية في رموزها السيادية من قبل عدو تاريخي، لا يمكن أن يُقرأ إلا كعدوان سافر لا يبرره أي خلاف سياسي أو عقائدي مع من يحكم سوريا اليوم. فالمسألة تتعلق بالسيادة العربية وبكرامة المنطقة وبمستقبل مشروعها السياسي، الذي بات يتآكل بفعل هذا الانهيار الجماعي في المواقف والرؤى.
إن استمرار الصمت العربي، والتطبيع مع العدو رغم ما يقترفه من جرائم، يفتح الباب أمام مزيد من التغول الصهيوني، ليس فقط في سوريا، بل في أي نقطة ضعف أخرى في الخارطة العربية. وما استهداف القصر الرئاسي ووزارة الدفاع في دمشق سوى إنذار جديد بأن المنطقة تمضي نحو مرحلة أكثر خطورة، عنوانها تفكك السيادة، وغياب الردع، وتواطؤ ضمني مع من يعبث بأمنها وكرامتها.
فهل نبقى متفرجين حتى تحين لحظة الانهيار الكامل، أم أن الشعوب – وحدها – ستكتب مرة أخرى سطورًا جديدة في تاريخ المقاومة العربية، حين تسقط الأقنعة، وتتكشف حقيقة هذا العصر البائس؟