مقالات الرأي

دور القانوني حين يصمت المشرع وتتأخر اللائحة

بقلم/ غادة الصيد

النصوص التشريعية، لاسيما الحديثة أو التأسيسية غالبًا ما تصاغ بأسلوب إطاري تحيل فيه كثيرًا من التفصيل إلى اللوائح التنفيذية. وهذه الإحالة ليست رفاهًا تنظيميًّا، بل ضرورة لتفعيل القانون وبيان طرق تطبيقه، خاصة حين يتعلق الأمر بحقوق الأفراد أو التزامات الجهات الإدارية، ولكن حين تتأخر اللائحة تنشأ منطقة رمادية بين الإدارة التشريعية والممارسة الإدارية، حيث تتولد مشكلات عملية حقيقية، موظفون لا يعرفون حدود صلاحياتهم، مستفيدون محتملون لا يدرون كيف يمارسون حقوقهم، ومؤسسات تحاصرها النصوص دون أدوات للتنفيذ.

هنا ينهض العقل القانوني لا لينقل بل ليعيد بناء المعنى متقلبًا بين واجب الحذر وسلطان الاجتهاد، فالمستشار القانوني ليس مشرعًا، لكنه أيضًا ليس مجرد موظف ينتظر التعليمات، هو يقف في مساحة دقيقة بين النص الجامد والسياق الحي حيث لا يمكنه أن يلوذ بالصمت، ولا يجوز له أن يصوغ ما يشبه التشريع البديل، فهو عند اجتهاده مرهون بميزان مزدوج، ميزان النص نفسه، وميزان الحاجة الواقعية، فإذا كان النص يحتمل في لغته دلالات متعددة وتدفع الحاجة العملية نحو مسلك أوسع دون أن يعارض ذلك مقصد المشرع، فالتوسيع بضوابطه ليس فقط جائزًا، بل قد يكون واجبا.

أما إذا كان التوسيع يفضى إلى خلق التزام لم ينص عليه القانون أو يمنح جهة إدارية سلطة لم تفوض بها، فذلك يعد تعديًا على حدود التفسير، وتطفلًا على مهنة التشريع، أما التقييد فيجب أن يكون محكومًا بالحذر الشديد، فالتقييد تقييد للحقوق وتحديد للسلطات، فإن لم يكن له سند صريح أو قرينة قوية في سياق النص أو روح القانون فإنه ينقلب إلى تعد على الحريات، وهو ما يتعارض مع مبدأ الأمن القانوني، ففي غياب اللائحة تتغير وظيفة النص من كونه مرشدًا إلى كونه نقطة انطلاق، والقانوني هنا لا يملك رفاهية الانتظار، بل عليه أن يؤوِّل، لكن التأويل ليس فعلًا عبثيًّا، إنه فعل مقنن يخضع للقواعد القانونية، حيث يستحضر نية المشرع المفترضة، مقاصد التشريع السوابق الإدارية أو القضائية، القياس المعقول على حالات مماثلة في قوانين أخرى، هنا لا يكون القانوني مجرد مفسر، بل وسيطًا بين النص والواقع، بين القانون والناس، وهذا الدور لا يقوم على المطابقة، بل على اجتهاد مسؤول، توازن فيه الكلمة بالنتيجة والتوسيع بالأثر والتقيد بالعدل.

زر الذهاب إلى الأعلى