مقالات الرأي

ليبيا تتأرجح على حافة التسوية: متى ينتصر العقل؟

بقلم/ فرج بوخروبة 

منذ عام 2011، لم تعرف ليبيا طعم الاستقرار، رغم تعاقب الحكومات، وتعدد المبادرات، وتدخل القوى الإقليمية والدولية. وطن تتقاذفه الأمواج بين أمل ضائع في التغيير، وواقع يُكرّس الانقسام ويؤجل الحلول. فما زال المشهد الليبي حبيس تجاذبات داخلية حادة، تتشابك فيها المصالح السياسية مع الانتماءات الجهوية، وتُفاقمها تدخلات خارجية تزيد المشهد تعقيدًا وضبابية.

في ظل انقسام عمودي بين سلطتين في الشرق والغرب، باتت مؤسسات الدولة الليبية عاجزة عن فرض سلطة موحدة، أو تقديم خدمات فاعلة، أو حتى تنفيذ الحد الأدنى من الاستحقاقات الوطنية. سلطات متنافسة لا يجمعها سوى لغة الاتهام والتخوين، ومواطن ضائع بينهما، ينتظر منذ سنوات دولة تنصفه، وتعيد له شيئًا من الكرامة والأمان. هذا الانقسام لم يكن سياسيًا فقط، بل تمدد إلى مفاصل الدولة جميعها: انقسام في البنك المركزي، وازدواجية في المؤسسة الوطنية للنفط، وتضارب في الإدارات المحلية، حتى بات من الصعب الاتفاق على ميزانية وطنية واحدة تُعبر عن احتياجات الليبيين كافة.

الأخطر في هذا الانقسام أنه لم يعد مقتصرًا على السياسيين فقط، بل تمدد إلى المجتمع، ومزّق النسيج الاجتماعي الذي لطالما شكّل ركيزة التماسك الليبي. القبيلة التي كانت في زمن ما مصدر حماية وتوازن، تحوّلت في بعض المناطق إلى أداة صراع، والمجتمع الذي كان يحتكم إلى أعراف متوازنة، وجد نفسه وسط فوضى السلاح والانقسام والولاءات المتعددة. لقد أصبحت العصبيات الجهوية والمناطقية تتغلب أحيانًا على شعور المواطنة، فاختلت المعايير، وذابت السلطة الرمزية للدولة لصالح سلطات الأمر الواقع.

ولا يمكن فصل هذا المشهد المأزوم عن التدخلات الأجنبية التي باتت أكثر وضوحًا وجرأة. فكل طرف داخلي يجد في قوة خارجية سندًا لموقفه، فتضيع السيادة، وتُختطف الإرادة الوطنية. أصبحت ليبيا ساحة لتصفية حسابات دولية، أكثر من كونها ساحة لبناء مشروع وطني جامع، وباتت كل مبادرة سلام مشروطة برضا العواصم المؤثرة أكثر مما هي نابعة من رغبة ليبية خالصة. التدخلات لم تقتصر على السياسي، بل امتدت إلى الدعم اللوجستي والعسكري، بل وإلى التحكم في تدفق الأموال والعقود والتفاهمات الاقتصادية. لقد غدت السيادة الليبية مجالًا للتفاوض، بدل أن تكون ثابتًا وطنيًا لا يُمس.

في المقابل، تستمر الدعوات إلى إجراء انتخابات وطنية شاملة، باعتبارها المخرج الطبيعي للأزمة. لكن هذه الدعوات تصطدم بغياب قاعدة دستورية متفق عليها، وبتخوفات متبادلة بين الأطراف، وبتساؤلات جوهرية لم تُحسم بعد: من يحق له الترشح؟ من يضمن نزاهة العملية؟ من يقبل بالنتائج إذا لم تكن لصالحه؟ أُطلقت مبادرات متتالية من الأمم المتحدة، ومن بعثات دولية، ومن أطراف داخلية، لكنها غالبًا ما تعثرت في اللحظة الأخيرة. إما بسبب شروط لم تُلبَّ، أو بفعل تدخلات تعرقل التوافق، أو لأن الثقة بين الفرقاء لم تُبنَ أصلًا.

ولعل الاقتصاد الليبي يعكس أكثر من غيره عمق الأزمة. فبلد غني بالثروات، يعاني فيه المواطن من ضعف الخدمات، وغياب فرص العمل، وفساد ينهش مؤسسات الدولة. بينما تتحول العائدات النفطية إلى أداة للصراع وتثبيت النفوذ، بدل أن تكون وسيلة لتحقيق التنمية والعدالة. يواجه المواطن الليبي أزمات معيشية يومية: انقطاع الكهرباء، نقص السيولة، ارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة الدينار. وهو يرى أن عائدات النفط الهائلة لا تنعكس على حياته، بل تُستخدم أحيانًا لشراء الولاءات، أو لتمويل نزاعات، أو لعقد صفقات خارجية غامضة.

من جانب آخر، لعب الإعلام دورًا مزدوجًا في تعميق الأزمة أو التخفيف منها. بعض القنوات والمنصات الإعلامية تبنّت خطاب التحريض والكراهية، وساهمت في شيطنة الخصوم، بينما حاولت أخرى أن تنقل صوت العقل والحوار. وبين هذين الخطين، ضاع المشاهد، وباتت المعلومة خاضعة للتوجيه، لا للحقائق، مما زاد من أزمة الثقة في الفضاء العام.

ورغم قتامة الصورة، لا يمكن إغفال حقيقة أن الليبيين تعبوا من الانتظار، وبدأت أصوات جديدة ترتفع، تنادي بالسلام، وبضرورة المصالحة، وبأهمية تجاوز منطق المغالبة. فهناك جيل جديد يتشكّل خارج ثنائية الشرق والغرب، يؤمن بالدولة المدنية، وبأن الحل لا يمكن أن يُفرَض بالقوة، بل يُبنى بالحوار والتوافق. هذا الجيل، الذي نشأ في ظل الأزمة، يبدو أكثر وعيًا بخطورة استمرار الانقسام، وأكثر استعدادًا للقبول بالآخر، إذا توفرت الأرضية المناسبة لذلك. في الجامعات، والمبادرات الشبابية، والمؤسسات المدنية، تتبلور أفكار جديدة تستحق أن تُحتضن وتُشجَّع.

ما تحتاجه ليبيا اليوم ليس فقط حلولًا سياسية، بل نهضة في الوعي، وثورة في المفاهيم، وتربية على ثقافة التسامح وقبول الآخر. فالعقل الليبي الذي صمد أمام سنين من القهر والحروب، قادر، إذا ما أُتيح له المجال، أن يصنع معجزة سلام حقيقية. نحن بحاجة إلى إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة، على أساس الحقوق لا الولاءات، وعلى أساس القانون لا العُرف وحده.

المعركة اليوم لم تعد فقط على السلطة أو الموارد، بل على هوية الوطن، وشكل مستقبله، وطبيعة الدولة التي نريدها: هل هي دولة الغلبة والردع، أم دولة القانون والمؤسسات؟ إن الدولة الحقيقية لا تُبنى فقط بالاتفاقات السياسية، بل بإرادة شعبية تعي معنى الوطن، وتؤمن بأن لا أمن بلا عدالة، ولا تنمية بلا مصالحة.

لقد آن الأوان لأن ينتصر العقل، لا بتسويات هشة تكرس الانقسام، بل برؤية وطنية تستوعب الجميع، وتمنح لكل الليبيين الحق في الأمل والمشاركة والبناء. فالثأر لا يبني دولة، والإقصاء لا يؤسس سلامًا، والحل لا يمكن أن يكون إلا شاملًا، عادلًا، متحررًا من منطق الغلبة والانتهازية.

ليبيا ليست قدرًا مكتوبًا بالفوضى، بل وطنًا يستحق الحياة. وطنًا إذا تصالح مع ذاته، يمكن أن يُلهم المنطقة كلها بمعجزة سياسية وإنسانية تُكتب بحبر الوعي لا الدم.

زر الذهاب إلى الأعلى