مقالات الرأي

حين تتحوَّل القبيلة إلى أداة للابتزاز السياسي

بقلم/ عبد الله ميلاد المقري

لم يشهد التاريخ الوطني، ولا النضال القومي التحرري لهذه الأمة، ما نعيشه اليوم من تشوُّه عميق في المشهد القبلي الليبي، بعد أن سقطت بعض المكونات في فخ الانقسام والتفريط في الثوابت الوطنية التي كانت في زمن ما عمقًا للنضال، وسندًا قويًا في معارك التحرير وبناء الوطن. لقد تقدّمت القبيلة الليبية، بكل أركانها من شباب، وشيوخ، ونساء، الصفوف في مراحل الكفاح الوطني، لكنها اليوم تُستبدَل عن دورها المقاوم والجامع، لتتحول إلى أداة للابتزاز السياسي. وأصبحت اللقاءات والتجمعات التي تُقام باسم القبائل والعشائر، مسرحًا للعبث، ومجالًا لتكريس الانقسام وتعميق الشرخ الاجتماعي، بدل أن تكون منصات للمصالحة أو التكاتف أو بناء الحلول. غابت الحكمة، وماتت الفضيلة، وانزوت العقيدة الوطنية، في ظل بيانات جوفاء تُصدر تباعًا، لا مضمون وطني فيها، ولا روح تُلامس معاناة المواطن. أغلبها يُستعمل لتصفية حسابات سياسية، أو لمغازلة سلطة غارقة في وهم البقاء، عبر شراء الذمم وتغذية الانقسامات، بدلًا من البناء الحقيقي للدولة والرجوع إلى الشعب، الذي وحده يملك حق اختيار النظام الذي يعبّر عن إرادته، ويخدم مصالحه.

إن المال العام، الناتج عن اقتصاد ريعي، غير منتج وغير تنموي، والمُتاح بلا رقابة، أصبح هو الوسيلة المثالية لتشكيل منظمات “موازية”، هدفها الوحيد دعم السلطة، حتى وإن تم ابتزازها لاحقًا. فلم يعد الدفع المسبق خيارًا، بل شرطًا لإصدار البيانات، أو تحريك الشارع، أو الدفاع عن الفساد، بعيدًا عن أي توجه وطني يسعى لتغيير المنظومة الفاسدة المرتبطة بولاءات خارجية لا يهمها لا الوطن ولا دولته.

وفي ظل هذا الانحدار، ظهرت طبقة جديدة في المجتمع، لا تُقاس بالكفاءة أو بالوطنية، بل بثمن ما تقدّمه في السوق: من أكياس رمل، إلى تبن، إلى بقايا ملابس مستعملة تُشحن من أسواق النفايات في تركيا وتُباع بالكيلو، ثم تُوزع تحت غطاء “المعونات الوطنية”، بينما الشعب يفتقر لأبسط مقومات الحياة. ومافيات المصارف، التي كانت يومًا عنوانًا للثقة، تحولت إلى أدوات للنهب والتجويع، حتى أن بعض مسؤوليها اليوم في السجون، وآخرون فرّوا إلى الخارج، باحثين عن الأمان بعد خيانة الأمانة.

نحن أمام احتكار بشع للسلطة، وهيمنة مافيا فساد غير مسبوقة على مفاصل الدولة، في وقت يعاني فيه الشعب الليبي من الانكسار واليأس وفقدان البوصلة الوطنية. ومع هذا الواقع، يبقى الأمل معقودًا على منقذ وطني لا يُشترى ولا يُباع، لا يخشى إلا الله والتاريخ، ولا يساوم على تراب الوطن. 

إن إعادة بناء الدولة لا يتحقق إلا بالرجوع إلى الثوابت الوطنية، وتحقيق إرادة المواطن، عبر دولة مدنية تمتلك أدوات المعرفة والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، في وطن واسع الخيرات، يستحق أن يعيش فيه الليبي مرفهًا، عزيزًا، حرًّا في اختيار من يحكمه، بعيدًا عن قوى التزييف والارتزاق والابتزاز.

زر الذهاب إلى الأعلى