الوعي بالمصير

بقلم/ محمد عبد القادر
ليس كافيًا أن تعيش ظروفًا مأسوية، أو مشكلات عميقة تصعب على الحل، أو فشل رهانات بنيت على معلومات أو استنتاجات بنيت على تحليلات خاطئة أو موهومة أو مزيفة، أو حتى قاصرة عن فهم ما يدور على مسرح الأحداث فعلًا، من تشابكات تعقِّدُ المسائل، أو ارتباطات تعوق أي نوع من العمل في اتجاه علاج تلك المشكلات، كل هذا ليس كافيًا لانتهاج سبل ناجعة للوصول لحلول تتناسب مع ما سبق ذكره.
ويمكن استطرادًا أن نلاحظ أو نستقرئ ما حدث منذ إنشاء الأمم المتحدة كمنظمة دولية انبثقت من تحت رماد الحرب العالمية الثانية بفعل إرادة الدول المنتصرة التي أعادت إنتاج المشاهد على المسرح الدولي بما يضمن للاعبين الكبار الذي هم القوة الفعلية والمحرك المهيمن على هذه المنظمة، فهم من يحركون مفاعيل قرارات الأمم المتحدة ويستثمرونها في اتجاه مصالحها وخدمتها، وهي تمثل محاولة هذه القوى أن تحاول علاج الصدامات فيما بينهم لإنتاج توافقات تؤخر الصراع أو تجمده مؤقتًا فيما بينهم أو تعيد التمحور أو تخفف التوترات، أو تنظم العنف وتوجهه أيضًا، كل ذلك بما يضمن سيطرتهم وكذلك مصالحهم وعدم اصطدامهم صدامات قد تؤذيهم مع بعضهم في إنتاج توازنات وتفاهمات تحفظ هيمنتهم، كل ذلك اقتضى إنتاج منظمة دولية تدور في أروقتها كل هذه الحالات مع إيهام الدول التي كانت مستعمرات لهم بأنها استقلت لرفع أعباء وتكاليف مستعمريها وإراحة أنفسهم من عناء الالتزام.
إذًا الأمم المتحدة كمنظمة تؤدي أدوارًا مهمة على الصعيد الدولي لحفظ السلم والأمن الدوليين، هي في الواقع منظمة يهيمن عليها الكبار ويوظفونها بما يحفظ حقوقهم ويخدم مصالحهم حيث القوة في يدهم والهيمنة مترتبة عليها وهذا ما حوَّل الأمم المتحدة إلى نادي دولي للخطابة وتبادل الاتهامات ليس إلا وأن أحد أهم مكوناتها فعليًا وليس قانونيًا هو مجلس الأمن الذي يتكون من عدد من الدول الصغيرة أو ذات التأثير الإقليمي المحدود في نطاقه، أمَّا السطوة والنفوذ والغلبة فهي للدول التي منحت نفسها حق النقض ليقوض الجمعية العامة وسطوتها في المنظمة الدولية الذي همش كل مكونات المنظومة الدولية، فأصبح مجلس الأمن هو القوة الفاعلة التي تنفذ قراراتها فعليًا، أما الجمعية العامة التي وفقا لقانون تأسيس المنظمة الدولية هي القرار الجامع والملزم قانونا لكن تم إلغاء أثرها الفعلي في مجلس الأمن، حيث إنه القوة الفعلية والفاعلة في القرارات الدولية.
من هنا ومن هذه الزاوية يمكننا تناول دور البعثة الأممية التي أظهرت العجز عن القيام بأي دور على أي مستوى لترتيب الساحة الليبية لتحقيق السلم الدولي وتهميش دور المليشيات المتوغلة بدعم غربي واضح يسكت عمدًا عن كل الممارسات التي فاقت حدود الوصف والقبول وحتى اللامعقول في ممارساتها اليومية في الشأن العام، بل وسيطرتها على مقدرات البلاد بدعم غربي واضح وصريح، فالمليشيات لم نرها تتعرض للوجود الأجنبي بكل أشكاله، بل تتلقى دعمًا منه وتوفر له ظروفًا مناسبة لتواجده، ويذكرني ما رُوِيَ عن الإنذار الصارم الذي وجهت ديبورا السفيرة الأمريكية في طرابلس للمليشيات التي قررت محاصرة واقتحام المؤسسة الوطنية للنفط وقت رئاسة صنع الله، بأن من يتواجد بالقرب من المؤسسة سيواجه بالتدمير لآلياته من الطائرات الأمريكية الأباتشي، وهذا ما جعل المليشيات ترجع لمقراتها وهي صاغرة، فلماذا لم يتم إيقافها وهي تقتل وتشنع وتنتهك مدنا بأكملها وتقتل وتشرد عائلات تحت ذرائع متعددة، وهنا يحضرني مشهد مماثل لهذا المشهد في العراق إبان الغزو الأمريكي حيث وفر الغازي حراسة مقر المؤسسة العراقية للنفط بالدبابات الأمريكية، بينما تركت المؤسسات السيادية الأخرى للدولة العراقية لمصيرها المخطط له التدمير والسرقة وحرق الوثائق والموجودات!.
لا أعتقد أن انتهاء دور عدد من المبعوثين الأمميين بالاستقالة طوعًا أو الإقالة المغلفة هو أمر عادي أو معتاد، لكنه يعبر عن الفشل أو الإفشال في أداء المهام الموكلة للمبعوث وفريقه وإيصاله إلى طريق مسدود يعجز فيه عن أداء دوره.
وغالبًا ما يكون مصدر العجز هو صراع الدول المؤثرة في المشهد الوطني ومصالحها المتضاربة وصراعاتها الحادة وأساليبها القذرة في تنفيذ ما أشرنا إليه، وكذلك ينبغي الإشارة إلى الوضع الداخلي في ليبيا وظروف البلد وكثرة اللاعبين المحليين الذين أُطلقت أيديهم في البلاد عبثًا وفسادًا وتعقيدًا مقصودًا.
إذًا والحال هذه؛ إن وجود البعثة الأممية منذ أكثر من اثنتي عشر سنة لم تُحدث اختراقًا واضحًا أو مؤثرًا اللهم إلا الاستمرار في تأزيم المشهد لا علاج مشكلاته، في تأصيل الأزمة وتفريخ الأزمات والعمل على انتشارها أفقيًا ورأسيًا وهذا واضح جدًّا في حالة الانتخابات التي يجري تأخيرها وتعقيدها والتلاعب من الناحية السياسية والقانونية والإدارية والفنية لعرقلتها، والسبب هو التوجيه والتحكم والتلاعب بهذه الانتخابات لإنتاج قيادات تابعة وفاسدة حتى تنفذ ما يُطلب منها وما يُنتظر للقبض على ناصية البلاد وتوظيف الصراع المستهدف، ألم يتساءل أحد لمَ المليشيات لا تتعرض للتواجد الأجنبي أو حتى تستهجن وجوده وهو بحجمه الضخم يُرى ويُحس!
كل هذا يقع على الساحة الليبية ولا وجود لمقاومة تذكر، سواء على المستوى الشعبي أو المنظمات أو الأحزاب والمثقفين والنخب؛ فالشعب أشغل بالبحث عن لقمة العيش التي جرى التلاعب بها عن طريق منظومة الفساد التي نشأت في كنف النفوذ الأجنبي، والمنظمات جرى إشغالها بموضوعات منفصلة عن الواقع والأحزاب التي لا تملك قاعدة شعبية ولا برامج ولا أدبيات سياسية نضالية. وأما النخب فجرى تهميشها وشراء بعضها والتشهير ببعض آخر وإخافة البعض وسجن البعض الآخر، لذلك فمسألة الوعي بطيئة وبطيئة جدا، فهل لا يزال الوضع يحتمل أم أن الوطن قد تلاشى؟ سؤال سيظل معلقًا.