العالم تحت وطأة العصر.. والتقدم التكنولوجي يغتال إنسانيتنا

بقلم/ المهدي الفهري
الانتماء للجنس البشري بتنوع أعراقه وأعرافه وثقافاته لا يعني بالضرورة الوصول إلى مرحلة الإنسانية بمعناها الأصيل والسلوكي والأخلاقي، فالإنسانية الحقيقية تقوم على قيم ومُثل وأعراف تتجاوز الفوارق الأخلاقية والاجتماعية وترفض ما يترتب على هذه الفوارق من ظلم وفساد ونفاق ورياء، حيث لا يتعدى انتماء بعض البشر للإنسانية كونه مجرد تصنيف بيولوجي لا أكثر.
ورغم أن الإنسان كائن مفكر ومبدع ويمتلك القدرة على احترام الأخلاق والقانون فإنه يواجه اليوم تحديات وجودية معقدة ترتبط بمرحلة ما بعد الحداثة، وفي زمن الاختراق الفكري والديني والثقافي حيث تهيمن تيارات فلسفية وقيمية مشوهة ومشبوهة تقوم على التنافس الأجوف بين الشهوة والشهرة والموضة، وفي ظل تغييب متعمد للعقل يعيش البعض وهم الحرية المطلقة التي تعني لديهم التحرر من جميع القيم والقيود والقوانين التي تضبط السلوك الإنساني وتصون كرامته، وهكذا يتحول الإنسان إلى ضحية لرغباته وتقلباته غير المحدودة وغير المنضبطة، وهو على استعداد لفعل أي شيء في سبيل تحقيق أهدافه وغاياته بغض النظر عن الوسائل والنتائج المترتبة على ذلك، وفي الواقع جاء الانبهار بالتطور التقني والتكنولوجي بما يفيض الكأس ويزيد الطين بلة وليضيف تعقيدا جديدًا لما سبقه من اكتشافات، فالاختراعات المذهلة والسريعة في شتى المجالات تجعل البعض مشدوهين أمام ما يحدث من تحولات، بينما تدفع آخرين للتخلي عن منظوماتهم القيمية والدينية انسياقًا وراء الإغراءات والبدائل التي توفرها وتطرحها التكنولوجيا الحديثة من حين لآخر.
وفي خضم هذه التحولات المدهشة تواجه الثقافة معركة البقاء أمام تحديات داخلية تكمن في صراعات اجتماعية وتحولات فكرية وبين تحديات خارجية تتمثل في صراع القيم في زمن العولمة والتبعية الثقافية وما يتبعها من تفكك وفقدان للهوية أو ما يسمى بالهشاشة الثقافية، حيث تنهار المفاهيم وتُفرغ المعاني من جوهرها وفق طبيعة إنسانية متناقضة ومعقدة، ولكنها تؤكد أن تجرد الإنسان من إنسانيته يجعله أسوأ مخلوق على ظهر الأرض وإمكانية تحوله إلى وحش يلتهم كل شيء في طريقه بلا رحمة ودون أدنى إحساس بالذنب أو شعور بالندم أو مراعاة لأي وازع ديني أو أخلاقي، وهذا ما نشهده اليوم في مختلف بقاع العالم من انتهاكات خارج المنطق وخارج العقل وخارج القانون الدولي الإنساني ليجد الإنسان نفسه أمام مفترق طرق بين الادعاء والحقيقة وبين الحرية الكاملة وهشاشة القيم وبين الحاجة الماسة إلى العلم والمعرفة وبين القدرة على التحكم في هذه المعارف والعلوم ليصل إلى نتيجة أساسية مفادها أن بقاء القيم وضبط السلوك واحترام الأعراف والقوانين ضرورات لا مناص منها لصنع حياة متوازنة تحترم مشاعر الجميع وتحقق التعاون والتفاهم والمنفعة المتبادلة للجميع دون أن تستهلك الإنسان أو تفرغه من محتواه الروحي والإنساني.