التيارات الإسلامية تقديس أم تعطيل؟

بقلم/ عفاف الفرجاني
نشأتُ كمسلمة في عائلة مسلمة، في بلدٍ مسلمٍ يشكّل فيه الدين نسبة 100% من مكونات المجتمع. لا طوائف متنازعة، ولا مذاهب متضاربة. تعلّمت في وطني أن الإسلام، في جوهره، لا يمنع الاجتهاد الفقهي ولا يرفض تعدد الآراء، لكنه يحذّر من التعصّب المذهبي والانقسام، لما فيه من فرقة وعداوة بين المسلمين.
فالمذاهب الفقهية كـ(الشافعية، والحنفية، والمالكية، والحنبلية) ما هي إلا وسائل لفهم النصوص وتنظيم حياة المسلمين، تختلف كليًّا عن المذهبية المذمومة التي تقوم على التعصّب والانغلاق ورفض المخالف.
أنا، داخل إطاري الفقهي كمسلمة، أجد في نفسي توازنًا بين منهج السلف في العقيدة، القائم على الإثبات دون تأويل، وبين الرؤية الأشعرية التي تدافع عقليًا عن الدين دون المساس بجلال الصفات، وأستلهم من التصوف الصحيح روح السموّ والضوابط، بعيدًا عن البدع والانحراف. بهذا التوازن، أبقى مسلمة سُنيّة معتدلة.
بفطرتي الدينية التي نشأت عليها، كما نشأ عليها أغلب الليبيين، قبل أن تخرج علينا هذه التيارات الميكافيلية، كنا نتفق على احترام العلماء، ونُجلّ المذاهب الفقهية التي يتبعها جيراننا وأشقاؤنا في بلدان إسلامية أخرى.
كنا، كمسلمين ليبيين، نتعامل مع المخالفين بأدب وحكمة. لم أسمع يومًا في بلدي، قبل هذه الفتنة الدينية، أن شيوخنا أو علماءنا أو قادتنا كفّروا مذهبًا أو جماعة مسلمة. بل ارتفعوا بالدين عن المذهبية الضيقة. حتى الشيعة لم نكفّرهم قط، بل اعترفنا بوجود اجتهادات واختلافات معتبرة داخل أهل السنة والشيعة، باعتبار الجميع مسلمين، يجمعهم الحرص على الوحدة والتعاون، في حدود ما لا يخالف العقيدة.
ما نراه اليوم من انقلاباتٍ في المفاهيم، وفوضى في التدين، وتشظٍّ في الخطاب الديني، وخروج جماعاتٍ تكفّر بعضها البعض وتغالط الناس، لا يعني أنهم على صواب. فالمعيار الحقيقي في التقييم هو منهج المسلم وسلوكه، لا انتماؤه لتنظيم أو جماعة.
وبعد سقوط النظام الجماهيري في ليبيا، استغلت التيارات الدينية الفراغ الأمني والسياسي، لتنتعش وتتمدّد. أنشأت المدارس والمكتبات، وسيطرت على المنابر والمساجد.
توسّع نفوذ هذه التيارات بالمشاركة السياسية، وبناء التحالفات العسكرية والاقتصادية والإعلامية، داخليًا وخارجيًا. واليوم، لم تعد تلك التيارات مجرد دعوية، بل أصبحت قوة سياسية وعسكرية وثقافية مؤثرة في البلاد.
فعلى سبيل المثال، يسيطر تيار الإخوان على عدة ميليشيات في طرابلس، تتلقى تمويلًا من مصرف ليبيا المركزي عبر نفوذ المفتي، الذي يُعدّ الأب الروحي للتنظيم. وتساعد هذه التشكيلات المسلحة في الحفاظ على نفوذ الإخوان داخل العاصمة، خاصة مع تغلغلهم في مفاصل الدولة، وتورّطهم في الصراع على طرق التهريب.
كما يعيدون اليوم تنظيم أدواتهم الإعلامية، عبر إطلاق محتوى ديني وسياسي يسعى لاستعادة شرعيتهم من خلال “الفتوى”. ورغم ما يبدو من ضغط خارجي مفتعل، فإنهم يمتلكون أدوات داخلية قوية. فقد عملوا منذ سنوات على “أخونة” الوظائف الحكومية، وتأمين التمويلات الضخمة، وضمان الحماية الأمنية، ما يجعل من الصعب تفكيكهم بسهولة.
لكننا، نحن الليبيين، لا نريد سوى إسلام سليم وصحي.
لا نريد أن نعمّق فكرة أن كل من انتمى إلى تيار قد ضل، ولا أن نعمّم الحكم على كل تيار بالباطل. فقط لا نريد أن يصبح اسم التيار أهم من اسم الإسلام نفسه.
في تقديري، علينا أن نركّز على جوهر الدين لا على قشوره: على الإيمان، والعبادة، والصدق، والرحمة، والعدل، ونصرة المظلوم، بدلًا من الشعارات، والتصنيفات، والرموز.
نرفض تقديس أي جماعة أو شخص. فـ”كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُردّ، إلا النبي ﷺ”.
ما أطمح إليه اليوم، أن يصدر موقف حاسم من قادة الفكر الديني، يُركّز على ضرورة إلغاء هذه التيارات، ومحو مسمياتها، حتى يتوقف الشباب عن الارتهان لها.
كل ما نطمح إليه هو ألا نسمع مجددًا تسميات مثل: (إخواني)، (أشعري)، (صوفي)، أو (سلفي).
نريد أن تكون القدسية لله ورسوله، وألا يُختزل الإسلام في رموز أو جماعات، يجتهد أصحابها، فيصيبون ويخطئون.
نريد أن نرى المسلم الحقيقي: يصلّي، يصوم، يزكّي، يتصدّق، يعبد الله بإخلاص، يسأل العلماء الثقات إن أُشكل عليه أمر، يفرح بوحدة المسلمين، ويدعو لنصرة الدين.
هذا هو المنهج النبوي الصافي، الذي لا يُلزمك بأن تكون سلفيًا أو صوفيًا أو أشعريًا أو إخوانيًا لتكون على الحق، بل أن تكون مخلصًا لله، متّبعًا لرسوله.