مقالات الرأي

في التوطين والتَوَطّن!! 

بقلم/ مصطفى الزائدي

الهجرة من دول فقيرة إلى دول أخرى أكثر ثراءً مشكلة عالمية وليست محلية، ناتجة عن النظام الاقتصادي الدولي الجائر الذي مكّن الدول الاستعمارية سابقًا من الاستحواذ على ثروات الشعوب المستعمرة بعد عمليات إبادة وتطهير عرقي بشعة جرت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كما حدث مع الهنود الحمر في أمريكا، وفي عدد من الدول الإفريقية التي أُبيد عدد كبير من سكانها ونُقل عدد آخر أكبر كعبيد إلى العالم الجديد والعالم الاستعماري القديم.

اختلال التوازن الاقتصادي على المستوى الدولي جعل دول الغرب الاستعماري غنية ومتطورة، وأبقى مجموعة كبيرة من دول الجنوب فقيرة وتابعة، ما دفع أعدادًا كبيرة من سكانها إلى قطع مسافات طويلة على الأقدام وعبر البحار في رحلات موت، ليصلوا إلى ثرواتهم التي نُهبت منهم. لقد شهد العقدان الماضيان طفرة ضخمة في الهجرة التي صُنّفت على أنها غير شرعية، فاستباحت جموع المهاجرين من الجنوب حدود الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

ليبيا تمتلك مساحة شاسعة وساحلًا طويلًا جنوب المتوسط، وعدد سكان قليلا. طيلة عقود بعد الاستقلال ومنذ 1969، تكوّنت بها سلطة وطنية قوية، وضعت ركائز لتنمية واسعة وشاملة، وبنت قوة أمنية وعسكرية حافظت على الحدود ومنعت استباحتها، سواء من المهاجرين أو من الدول الاستعمارية التي تنظر بعيون الطمع لثرواتها. لكن بعد سقوط مؤسسات الدولة المركزية المنيعة في 2011 وتفتت المنظومة الأمنية والعسكرية، تحولت ليبيا إلى معبر أساسي للمهاجرين من الجنوب إلى القارة الأوروبية عبر البحر المتوسط، وانتعشت تجارة البشر وتعقّدت، وبرزت منظمات مافيا متعددة الجنسيات تقوم عليها.

أمران خطيران يهددان مستقبل الوطن الليبي ووجود الشعب الليبي بتكويناته التاريخية المعروفة: الأول، بقاء عدد كبير من المهاجرين الذين لا يستطيعون مواصلة رحلات الهجرة إلى الشمال في ليبيا، حتى صاروا مشكلة ظاهرة للعيان، إلى درجة أن فاقت أعدادهم المواطنين في كثير من المدن والقرى الليبية، خاصة في الجنوب.

والأمر الثاني، الأشد خطورة، هو قرار الدول الأوروبية إعادة المهاجرين وتوطينهم في ليبيا، ولذلك القرار أهداف جيوسياسية واستراتيجية أخرى، منها إقامة دولة زنجية في ليبيا ربما تساهم في ضمان تبعية ليبيا للغرب وتفصل المغرب العربي عن المشرق، وتمنع محاولات نهوض المنطقة في المستقبل المنظور.

المخطط الأوروبي لم يعد أفكارًا مرسومة في دوائر الاستخبارات، بل تحول إلى سياسات معلنة يتحدث عنها القادة الأوروبيون جهارًا نهارًا، ويعملون بكل الوسائل والوسائط على تحقيقها. ولولا أن تشكّلت نواة لقوات مسلحة في جزء من ليبيا حدّت من الاندفاع الأوروبي لنقل المهاجرون إليها، لكان موضوع التوطين قد وقع بالفعل. ما يزيد من خطورة برامج التوطين، سياسة الولايات المتحدة الجديدة التي يمارسها الرئيس ترامب في العلن بنقل المهاجرين إلى أمريكا، وأيضًا المجرمين الأمريكيين الذين يقضون عقوبات طويلة إلى دول أخرى في أمريكا الجنوبية والقارة الإفريقية. لا شك أن بلدًا مفتّتًا بالمواصفات الليبية الحالية سيكون موقعًا نموذجيًا لتنفيذ السياسة الترامبية والغربية عمومًا.

التوطن والتوطين تهديد لمستقبل وجود ليبيا كدولة مستقلة تسكنها مجموعة بشرية متجانسة، لا يهدد فقط مكونًا اجتماعيًا ليبيًا بعينه، فهي ليست موجهة إلى القبائل العربية، بل إلى كل الليبيين. وربما أكثر المتضررين منها ستكون المجموعات القليلة من السكان في المناطق المستهدفة بالتوطين، وهم التبو والطوارق، المندمجون كليًا في النسيج الليبي حاليًا والمتساوون في الحقوق والواجبات رغم كونهم أقلية. هذه الأقلية قد تندثر في كتلة المهاجرين المتوطنين في المستقبل القريب. فلو تم توطين عشرة ملايين أفريقي، وربما آخرين من بنغلاديش وتايلنديين وغيرهم من المهاجرين إلى أوروبا، سيكون ذلك على حساب الإخوة من التبو والطوارق، الذين سيذوبون في كتلة بشرية جديدة مختلفة في تكوينها العرقي والثقافي وربما الديني. لذلك من المهم أن تتصدى النخب الليبية كلها، وخاصة من الإخوة التبو والطوارق، لمشاريع التوطن والتوطين.

علينا أن نصم آذاننا عن الدعايات الاستعمارية التي تروج إلى أن مشروع التوطين والتوطن قد يكون عاملًا إيجابيًا وفي مصلحة الأقليات، وأن ندرك أن التوطين والتوطن ليس مقصودًا به الجنوب الليبي فقط، بل ليبيا بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها مستهدفة من هذا المشروع الاستعماري.

النخبة الوطنية مطالبة بأن تنظر في المخاطر الاستراتيجية وأن تبتعد عن التعمق والتركيز في الخلافات والصراعات الجانبية التي صنعها الغرب لبقاء الحال على ما هو عليه. المشكلة في ليبيا اليوم وغدًا ليست في السلطة التي تديرها، وليست في توافق سياسي كما يُقال، ولا حتى في إجراء انتخابات، المشكلة بالدرجة الأولى تكمن في مخططات الغرب التدميرية.

على النخب، أيًا كانت توجهاتها السياسية وانتماءاتها الاجتماعية، أن تفكر في الموضوع الرئيسي وليس في الهوامش. بلادنا في خطر وجودي، في بقائها دولة مستقلة ذات سيادة، وفي كوننا سكانها منذ آلاف السنين. علينا أن ننتبه قبل فوات الأوان، وأن نتصرف بكل جدية وحزم، فالوقت يمضي بسرعة الضوء!

زر الذهاب إلى الأعلى