مقالات الرأي

البروباغندا

بقلم/ محمود امجبر

في دهاليز الصراعات الحديثة، خلف الستار الكثيف للغة الدبلوماسية والشعارات البراقة، يكمن سلاح غير تقليدي لكنه أكثر فتكًا مما يبدو.. إنها البروباغندا. ليست مجرد وسيلة إعلامية، بل آلة نفسية ضخمة تُصاغ بعناية لتُخفي أهدافًا مضمرة، وتعيد تشكيل وعي الجماهير.

في ظاهرها، تُروّج البروباغندا للحرية، لحماية المدنيين، أو لمحاربة الإرهاب، لكنها في جوهرها أداة يُعاد بها تشكيل مسار الأمم. تُستعمل لتبرير انقلابات تُنفذ بأيدٍ من أبناء البلد أنفسهم، ممن يُنصَّبون عملاء لخدمة أجندات استعمارية جديدة. هؤلاء لا يقتصرون على حمل السلاح ضد شعوبهم فحسب، بل يفتحون الأبواب أمام الهيمنة الأجنبية، متذرعين بحجج تبدو للوهلة الأولى إنسانية أو منطقية.

تأمل المشهد: العراق، الذي سقط تحت قبضة السيطرة الأمريكية بحجة امتلاك أسلحة نووية، لم تُكتشف يومًا. ليبيا، قُصفت مدنها وأحرقت مؤسساتها بذريعة “حماية المدنيين” وتعزيز ديمقراطية لا مكان لها في خرائط البارود. اليمن بات ساحة صراع معولمة تحت لافتة “الإرهاب”، وسوريا ميدان قتال باسم الدفاع عن الأقليات والقضاء على “الديكتاتوريات”. أما فلسطين، فقُدّمت على مذبح “أرض الميعاد”.

البروباغندا لا تعتمد على الكذب الصريح بقدر ما تتقن لعبة “الحقائق المجتزأة”. إنها تحرّك المشاعر، تتلاعب بالهوية، وتضرب على وتر الخوف أو الطموح. لا تحتاج إلى منطق، بل إلى إيقاع يمس القلب دون أن يمر بالعقل. وبذلك، تُغيّب الموضوعية والشفافية، وتُكرّس مفاهيم موجهة تخدم مشاريع أكبر.

إنها عملية خداع ممنهجة، تمارسها جهات تسعى إلى تكوين رأي عام يخدمها، عبر توجيه المعلومة وتحريفها، واستغلال الثوابت الثقافية والدينية للمجتمعات. فكلما بدا الخطاب أكثر التصاقًا بالقيم، زاد تأثيره وخطورته.

وهنا، يخبرنا التاريخ أن الحرب لا تبدأ عند أول رصاصة، بل عند أول رواية تُصاغ بخبرة لتُضفي على العدوان ملامح العدالة. كثيرٌ من الحروب شُرِّعت شعبيًّا من خلال الحيلة الدعائية التي تجعل الجماهير نفسها تموِّل الحرب وتتبناها، وتبكي من أجل انتصارها.

ربما يقول البعض إن الاستعمار بصورته الكلاسيكية قد انتهى. نعم، لربما غابت البزات العسكرية ومجالس الحاكم العام، لكن ماذا عن أدوات السيطرة الحديثة؟ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حين اعتلت الولايات المتحدة عرش النظام الأحادي القطبية، شهد العالم أشكالًا جديدة من التدخل تتسم بالنعومة، لكنها لا تقل ضراوة. توسَّعت أدوات التغلغل، واكتسبت “الهيمنة” قناعًا أكثر حداثة يحمل اسم “التحالفات الإنسانية” و”مكافحة الإرهاب” و”الإصلاح الديمقراطي”.

واليوم، نشهد تراجعًا في الوعي الجمعي، وتآكلًا في الهويات الوطنية، لا سيما في المجتمعات العربية. لم يحدث ذلك صدفة، بل في ظل بثٍّ دؤوب للبروباغندا التي نجحت في تفكيك منظومة الوعي التاريخي، وخلخلة الثقة في الثوابت، وتشويه المفاهيم.

وبالرغم من مرور الزمن وتغيُّر الأدوات، فإن جوهر المشروع الاستعماري بقي على حاله. تتغير الأسماء، تتجدد الأدوات، تُستبدل القواعد العسكرية بمنصات إعلامية ومنظمات “مدنية”، لكن الهيمنة تظل الهدف الأسمى، فما تغير هو القناع فقط.. أما الوجه، فباقٍ كما هو منذ قرون.

زر الذهاب إلى الأعلى