مقالات الرأي

ليبيا.. المشهد السياسي بين التعثر والتطلعات

بقلم/ فرج بوخروبة

منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في عام 2011، تعيش ليبيا مرحلة انتقالية معقدة، اتسمت بالتجاذبات السياسية والصراعات المسلحة والانقسامات المؤسسية. وعلى الرغم من المحاولات المتعددة لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار، لا تزال البلاد تعاني حالة من الغموض السياسي، ما ينعكس سلبًا على مختلف جوانب الحياة العامة.

تتجلى الأزمة الليبية في تعذر وجود سلطة مركزية موحدة، حيث انقسمت مؤسسات الحكم بين حكومتين متنافستين، الأولى في طرابلس غرب البلاد، والثانية في بنغازي شرقها. وبين هذين القطبين تتوزع الولاءات وتتداخل الأجندات المحلية والدولية، الأمر الذي أدى إلى إضعاف هيبة الدولة وأعاق جهود المصالحة الوطنية.

شهدت ليبيا محطات عديدة للحوار السياسي، قادتها الأمم المتحدة تارة، ورعتها دول إقليمية ودولية تارة أخرى. فقد أسفرت جولات الحوار التي احتضنتها مدن مثل الصخيرات وباليرمو وتونس وجنيف عن تشكيل حكومات توافقية ومحاولات لتوحيد المؤسسات، غير أن غياب الثقة، وتداخل المصالح، وافتقار الاتفاقات لآليات تنفيذ فعَّالة، غالبًا ما حال دون تحقيق نتائج مستدامة.

تُعد الانتخابات العامة أحد أهم المخرجات التي راهن عليها المجتمع الدولي والليبيون للخروج من حالة الانقسام. إلا أن هذه الاستحقاقات، التي كان يُفترض أن تُجرى في ديسمبر 2021، تعطلت لأسباب تتعلق بالخلاف حول القوانين الانتخابية، وشروط الترشح، ورفض بعض الأطراف الاعتراف بنتائج قد لا تصبُّ في صالحها. وهكذا، تحوَّلت الانتخابات من أداة للحل إلى نقطة توتر إضافية.

من جانب آخر، تتسم الساحة السياسية الليبية بتعدد الفاعلين، ما بين نخب تقليدية وقوى مسلحة وشخصيات ذات نفوذ قبلي أو جهوي. هذا التعدد، وإن دلَّ على تنوع البنية المجتمعية، إلا أنه ساهم في تعقيد المشهد السياسي، خاصة في ظل غياب مؤسسات قادرة على احتواء هذا التنوع ضمن إطار وطني جامع.

وتعاني ليبيا من أزمة شرعية متجذرة؛ إذ إن جميع المؤسسات القائمة اليوم تعمل بتفويضات منتهية أو متنازع عليها، سواء أكان البرلمان، أم مجلس الدولة، أم الحكومتان المتنافستان. هذا الوضع أضعف الثقة الشعبية في العملية السياسية، ورسَّخ شعورًا عامًّا بالإحباط، لاسيما في ظل تردِّي الأوضاع الاقتصادية وتدهور الخدمات الأساسية.

وفي الوقت ذاته، تلعب العوامل الإقليمية والدولية دورًا محوريًّا في الشأن الليبي. فقد تحوَّلت ليبيا إلى ساحة تنافس بين قوى خارجية تسعى كل منها إلى ترجيح كفة حلفائها على الأرض، ما أضفى على الأزمة طابعًا معقدًا يتجاوز الحدود الوطنية. وقد أدت التدخلات الخارجية في بعض الأحيان إلى تهدئة الأوضاع، لكنها في أحيان أخرى ساهمت في تأجيج النزاع.

رغم هذا الواقع المضطرب، لا يمكن إغفال الجهود المحلية التي تبذلها بعض الأطراف الليبية لإعادة بناء الثقة، سواء من خلال المصالحة المجتمعية، أم الدعوة إلى حوار وطني شامل، أم عبر مبادرات لتوحيد المؤسسات السيادية كالبنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. كما أن المجتمع المدني في ليبيا، رغم محدودية تأثيره السياسي المباشر، يلعب دورًا متناميًا في دعم الحوار، ونشر ثقافة التعايش، والمطالبة بإصلاحات حقيقية.

الجدير بالذكر أن الوضع الأمني، على هشاشته، شهد خلال العامين الماضيين نوعًا من التهدئة النسبية، وإن لم يُترجم إلى تقدم سياسي ملموس. فالهدوء لا يعني بالضرورة استقرارًا، خاصة في ظل استمرار وجود تشكيلات مسلحة خارج سلطة الدولة، وصعوبة توحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادة موحدة.

ومع كل هذه التحديات، تظل ليبيا بلدًا زاخرًا بالإمكانات، سواء من حيث الموارد الطبيعية، أم موقعها الاستراتيجي، أم ثروتها البشرية. غير أن تحقيق الاستفادة من هذه الإمكانات مرهون بوجود إرادة سياسية جامعة، وتوافق وطني حقيقي، وخارطة طريق واضحة تقود البلاد إلى مرحلة من السلم والاستقرار.

في المجمل، يمكن القول إن الأزمة الليبية ليست مستعصية الحل، لكنها تحتاج إلى مقاربة جديدة تقوم على الواقعية السياسية، والاستماع إلى صوت الشارع الليبي، وإعلاء المصلحة الوطنية فوق الاعتبارات الفئوية والشخصية. فطريق الاستقرار يمرُّ أولًا عبر الاتفاق على قاعدة دستورية تضمن حقوق الجميع، وتمهِّد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، تنبثق عنها سلطة شرعية قادرة على احتكار السلاح، وإنهاء الانقسام، وبناء دولة القانون والمؤسسات.

زر الذهاب إلى الأعلى