سقفٌ من خيانة.. وأرضٌ من دم

بقلم/ عثمان الدعيكي
في مشهد يعكس عمق الانهيار السياسي والأخلاقي في النظام الدولي، شنت دولة الكيان الصهيوني حربًا شاملة على إيران بذريعة منعها من امتلاك سلاح نووي. بدأت العملية بسلسلة من الاغتيالات الدقيقة لعلماء إيرانيين بارزين، وتطورت لاحقًا إلى هجمات جوية استهدفت منشآت ومواقع عسكرية ونووية داخل العمق الإيراني.
غير أن ما يثير الانتباه في هذا التصعيد لم يكن طبيعة الضربة أو توقيتها فحسب، بل حجم التواطؤ الدولي والإقليمي الذي وفَّر لها غطاءً سياسيًّا كاملاً، حيث سُوِّقت الضربات الإسرائيلية على أنها “دفاع عن النفس”. الأخطر أن عددًا من الدول العربية فتح أجواءه للطيران الحربي الصهيوني، الذي نفَّذ مهماته الهجومية بحرِّية، وهو ذاته الذي لم يغادر سماء غزة يومًا من دون أن يخلِّف وراءه الدمار والخراب وأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ.
لم تكتفِ هذه الأنظمة بالصمت، كما اعتادت في محطات سابقة من العدوان الصهيوني، بل تجاوزته إلى التفاخر العلني بإسقاط الصواريخ الإيرانية التي عبرت أجواءها ردًّا على هجمات دولة الكيان المحتل. في مشهد سريالي، تُفعَّل منظومات الدفاع الجوي العربية لاعتراض صواريخ جاءت ردًّا على عدوان عسكري مباشر، بينما تُفتح الممرات أمام طائرات الكيان الغاصب لتذهب وتعود دون اعتراض.
في منطق هذه الأنظمة، تصبح إيران هي “العدو الأخطر” لا لأنها تشكل تهديدًا مباشرًا لها، بل لأنها تجرؤ على الرد، وتتبنى خطابًا داعمًا للمقاومة الفلسطينية، وتحرجها أمام شعوبها. في هذا المنطق المقلوب، تُصنَّف كل رصاصة أو صاروخ إيراني كـ”تهديد للأمن العربي”، في حين يُعتبر تحليق الطيران الصهيوني في الأجواء ذاتها أمرًا “واقعًا” يستوجب التعايش معه، بل والتنسيق معه.
وفي المقابل، يواصل قطعان الصهاينة ارتكاب مجازرهم بحق الفلسطينيين، مستخدمين ترسانة دمار كاملة، بتواطؤ أمريكي وغربي لا مواربة فيه، وسط صمت عربي يكاد يبلغ حد الشراكة الفعلية. تُقصف المدارس والمستشفيات، وتُدفن العائلات تحت الأنقاض، بينما تغيب حتى بيانات الإدانة الشكلية، وتحل محلها حملات تبرير علنية تغلف التعاون العسكري مع المعتدي بمصطلحات الأمن القومي والمصالح العليا.
أما الحديث عن “القرار العربي المستقل” فقد بات أقرب إلى العبث، إذ إن ما نشهده ليس فقط تخليًا عن أي موقف قومي، بل انخراطًا فجًّا في المشروع الصهيوني، دون حتى محاولة الحفاظ على مظهر رمزي يحفظ ماء الوجه أمام الشعوب.
التاريخ يسجل هذه اللحظات بدقة، ويفرزها بوضوح بين خانة الخيانة وخانة الحياد، بين العار والحكمة. فالأنظمة التي تبرر المجازر وتمنع حتى وسائل الرد عليها، لن تسامحها شعوبها، ولن يغفر لها الزمن. تلك الأنظمة نفسها، التي طالما تغنَّت بالقضية الفلسطينية وادَّعت الدفاع عن الأمة، تقف اليوم متورطة حتى النخاع في دعم المعتدي وعرقلة المقاوم.
ما يجري في سماء المنطقة ليس مجرد صراع عسكري، بل اختبار أخلاقي وسياسي حاسم، يكشف بوضوح من اختار الاصطفاف مع الأمة، ومن ارتضى أن يكون ممرًّا لعدوها، وسدًّا في وجه من يحاول ردعه. وفي خضم هذا الانكشاف، تظل الشعوب وحدها الحامل الحقيقي للبوصلة، رغم ما تتعرض له من قمع وتضليل وتزييف للوعي.
إن الصمت على هذه المعادلة المعكوسة مشاركة في الجريمة، وإن التواطؤ مع المعتدي، ولو بالصمت، هو خيانة للمقاومة وطعنة في خاصرتها.