مقالات الرأي

تدهور العلاقات الإنسانية وآثارها الصحية

بقلم/ د. علي المبروك أبوقرين

إن تدهور العلاقات الإنسانية، وما يغذّيها من مشاعر الغيرة والحسد والغلّ والحقد والكره، ليست مجرد مشاكل اجتماعية أو أخلاقية فقط، بل هي أمراض سلوكية خطيرة، ولها بالضرورة آثار سلبية على الصحة النفسية والعقلية، وتنعكس بقوة على السلام الاجتماعي والتماسك الأسري، وعلى عدالة وإنصاف بيئات العمل والسكن والمعيشة، وكذلك على كفاءة التنمية البشرية والاقتصادية.
إذ إن طبيعة هذه الأمراض السلوكية تؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس، وتغذية الكراهية داخل الأسرة والزمالة والجيرة والمجتمع.

وتظهر هذه الآثار بوضوح في مجالات الدراسة والعمل، عندما ينجح الفاشل بالغش على حساب المجتهد، ويُعيَّن الضعيف غير المؤهَّل، ويُقدَّم غير الأكفاء على أصحاب الكفاءات والخبرات، ويتعاظم الغِلّ، وتشتد الأحقاد مع استمرار المظالم والتمييز والإقصاء، وحرمان أصحاب الحقوق وذوي القدرات.

وبهذا، تتولّد الطاقات السلبية، وتتحوّل إلى سلوكيات عدائية وانسحاب اجتماعي.

ومع تنامي الأنانية والمصالح الضيقة، تتحوّل العلاقات من أُلفة وترابط وشراكة وتعاون، إلى تنافس سلبي وتناحر، وتدمير للولاء والانتماء.

وتظهر الآثار السلبية على الصحة العامة، وتنتشر الأمراض النفسية مثل: الاكتئاب، والقلق، والتوتر، والغضب، والأرق، والإرهاق، والإجهاد المزمن، والوسواس القهري. كما تزداد نسب التدخين بين فئات المجتمع، في الجنسين، وخصوصًا بين صغار السن، إلى جانب تعاطي المخدرات والكحول، والإفراط في الأكل والسمنة.
وهذه السلوكيات تؤدي بدورها إلى أمراض عضوية، مثل ضعف المناعة، وأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والسكري، واضطرابات الغدد والجهاز الهضمي، إضافة إلى أمراض مزمنة ومتعددة، منها الجلطات الدماغية، والسكتات القلبية، والأمراض المناعية والمستعصية.

وبالضرورة، تؤدي العلاقات المسمومة إلى العنف، والاعتداءات، والانتحار، والتفكك الأسري، وارتفاع معدلات الطلاق.
وكذلك، في بيئات العمل المسمومة، تغيب روح المبادرة والابتكار والتميّز والإنتاجية، ويستوي من يعمل ويجتهد بمن هو عكس ذلك وأشرّ.

وتسمو الواسطة والمحسوبية والجهوية والانتماء، على حساب المؤهل والخبرة والكفاءة والتخصص والأقدمية.

وتَموت روح المنافسة الشريفة، وتنتفي العدالة الوظيفية، وتُبنى القرارات على الولاءات لا على الكفاءات، مما يتسبب في هجرة العقول والكفاءات، وتزداد حالات الانسحاب والانزواء الداخلي، ويتآكل رأس المال الاجتماعي، ويتضاءل الاحترام والتقدير بين مكونات المجتمع، ويعلو الجهل على العلم، وتتعاظم وجاهة المال، والفساد، والنفوذ.

ينعكس كل ذلك على التنمية، والعدالة، والكرامة، والأمان، والاستقرار المجتمعي، وتتحوّل القيم الإنسانية النبيلة والحياة الاجتماعية السوية إلى غابة متوحشة، يتحوّل فيها الطب والتعليم إلى تجارة، وتتحول التجارة إلى الغش والاستغلال والجشع والتدليس. وتختفي الحماية الاجتماعية، وتتسع الفجوات بين طبقات المجتمع، وتستفحل الأمراض الاجتماعية والجسدية والنفسية، وتتسع دوائر الفقر، والمرض، والجهل، والبطالة، وما يترتب عليها.

ولهذا، يجب إيجاد الحلول اللازمة لحماية المجتمع والارتقاء به، وتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق العدالة والمساواة والحماية الاجتماعية.

ويتطلب ذلك إصلاحًا حقيقيًا في السياسات المؤسساتية، وتعزيز العلاقات الاجتماعية السليمة، وبناء بيئات آمنة نفسيًا وعاطفيًا واجتماعيًا، داخل الأسرة والمدارس والجامعات وأماكن العمل والبيئات المعيشية، وتنمية الوعي الديني والقِيَمي والتربوي، ونشر ثقافة التسامح، والاحترام، والتقدير، والاعتراف بالآخر.

كما يتطلب الاهتمام الأكبر بالرعاية الصحية الشاملة، لا سيما بالصحة النفسية والعقلية والاجتماعية، والتوسع في خدمات المشورة والدعم النفسي والاجتماعي، وتقليص الفوارق الاجتماعية، ورفع شأن العدالة والحكمة، والعلم والأخلاق، والآداب والثقافة، والنزاهة، والولاء والانتماء للوطن والأمة.

إن الأمراض الاجتماعية والجسدية والنفسية من أخطر التحديات والتهديدات التي تُدمّر المجتمعات والأوطان.
نسأل الله السلامة.

زر الذهاب إلى الأعلى