موت ميليشياوي.. نهاية فرد أم سقوط مرحلة؟

بقلم/ فرج بوخروبة
حين يتعب الوطن من طعنات أبنائه، وتتعب الأرض من دويِّ البنادق، لا يبقى سوى صوت العقل ندىً يتسلل بين ركام الضجيج. آن لليبيا، الجريحة بصمت، أن تستعيد هيبتها من بين أنقاض السطو المسلح، وتنهض من سُبات الفوضى التي فرضتها لغة السلاح وشرائع الغلبة، لم يكن الوطن يومًا ميدانًا للمتصارعين، ولا المؤسسات غنائم تُقتسم بقوة الرصاص.
اليوم، ومع انحسار مدِّ الميليشيات، وتراجع سلطان السلاح أمام حتمية الدولة، تبدأ صفحة جديدة؛ عنوانها “الشرعية لا الفوضى، القانون لا القوة”، إن تفكك المجموعات المسلحة لا يعني فقط نهاية مرحلة دامية، بل هو بداية لترتيب البيت الليبي على أسس العدالة، والمؤسسات، والوطن الواحد، بعيدًا عن منطق الكهوف والولاءات الضيقة.
في هذه اللحظة المفصلية، يُعاد ترميم الحلم الليبي بحكمة العقلاء، لا أوهام المدججين، وبقوة الحوار لا فوهة البندقية. فلتكن هذه البداية نحو ليبيا تستحق السلام، وحين يسقط أحد قادة الميليشيات في ليبيا، لا يكون موته حدثًا عابرًا يُقاس بتوقيت الخبر، بل لحظة فارقة تُنذر بتحوّلٍ خفيٍّ في موازين الصراع، وقد تعيد تشكيل معادلات النفوذ داخل الدولة وخارجها.
الميليشياوي ليس مجرد مسلَّح يحمل بندقية، بل هو نتاج فراغ الدولة، وصنيعة الفوضى، وأداة تُستخدم حين تتعطَّل المؤسسات، وتُختطف السيادة. موته إذًا ليس فقط تصفية جسدية، بل تصدعًا في البنية غير الرسمية التي بُنيت على أنقاض القانون، وكرَّست منطق القوة على حساب الشرعية.
غالبًا ما تأتي نهايات قادة الميليشيات وسط غموض كثيف: كمينٌ مباغت، أو اشتباكٌ داخلي، أو حادث أمني في توقيتٍ مريب. وغالبًا ما تكون خلف هذه النهايات روايات متضاربة، بعضها يروِّج للبطولة، وبعضها يهمس بالخيانة.
الميليشيا، بطبيعتها، كيانٌ هشٌّ هشاشةَ ولاءاته؛ لا تحكمها مبادئ، بل مصالح، ولا توحِّدها أهداف وطنية، بل أطماع شخصية. من يقودها اليوم، قد يكون ضحيتها غدًا. ومن يحكم بالسلاح، قد يُقتل به من أقرب المقرَّبين.
موت ميليشياوي مؤثر يُطلق سلسلة من التداعيات الأمنية والسياسية والاجتماعية:
•أمنيًّا: تضعف القبضة العسكرية المؤقتة، وقد تنفجر صراعات داخل الفصيل نفسه، أو يُعاد توزيع النفوذ في منطقة كانت خاضعة له. أحيانًا، تظهر ميليشيات جديدة لملء الفراغ، وتشتدُّ وتيرة الفوضى بدلًا من انحسارها.
•سياسيًّا: بعض الأطراف تستثمر في هذا الموت، وتعيد تموضعها استنادًا إلى توازنات القوة المستجدة. وربما يُستخدم الحدث للتمهيد لقرارات سياسية أو تحالفات جديدة، أو حتى لإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية بما يخدم أطرافًا محددة.
• اجتماعيًّا: المجتمع المحلي يعيش بين خوفٍ من الانتقام، وشماتةٍ من بعض الضحايا، وحذرٍ من القادم. ينكشف وجه القهر الذي مارسه القائد الميت، وتتبدد الهالة التي أحاط نفسه بها. ولكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب البديل المؤسسي؛ فالمجتمعات التي يحكمها العُرف والسلاح لا تجد مَن يحميها حين يسقط من كان يزعم الحماية.
السؤال الأكبر: من يملأ الفراغ؟
هنا جوهر القضية. فموت الميليشياوي لا يحسم الصراع، بل يفتحه على احتمالاتٍ جديدة. وإذا لم تكن هناك دولةٌ قادرة، ومؤسساتٌ رادعة، فإن الفراغ الذي يخلِّفه الموت قد يُملأ بأسوأ مما كان، إن موت قادة الميليشيات يجب أن يكون فرصة لإعادة الاعتبار للدولة، لا مجرد تدوير للوجوه والمصالح. لكن ذلك يحتاج إلى إرادة سياسية، وتحرك وطني، ورفض قاطع لأي سلاح خارج سلطة القانون.
في ليبيا، يموت الميليشياوي جسدًا، لكن ظلَّه قد يبقى حيًّا إن لم تُقطع جذور الظاهرة. موته اختبار للدولة: إما أن تملأ الفراغ بمؤسسة، أو تتركه لفوضى جديدة.