صرخة من أجل السيادة الوطنية

بقلم/ عبد الله ميلاد المقري
في ظل تصاعد الأحداث السياسية، تشهد العاصمة الليبية طرابلس حراكًا شعبيًّا لافتًا، يتمثل في مظاهرات واسعة تعبِّر عن تحوُّل نوعي في الوعي الجمعي لليبيين، وتؤكد رفضهم القاطع لأي شكل من أشكال التبعية للخارج. فقد بات المشهد السياسي الليبي ـ بحسب مراقبين ـ خاضعًا بدرجة كبيرة لإرادات خارجية، بينما يظهر الفاعلون المحليون في صورة المنفذين لتلك الإرادات، ما جعل السيادة الوطنية على المحك، غير أن المظاهرات الأخيرة جاءت لتكسر هذا الصمت، ولتمنح الليبيين مكسبًا وطنيًّا بالغ الأهمية: عودة الصوت الشعبي الحقيقي، كأداة ضغط وموقف وطني يُعبِّر عن تطلعات الليبيين في الحفاظ على استقلالهم ووحدة ترابهم ورفضهم لأي قرارات تُفرض عليهم من الخارج.
إن الحشود التي نزلت إلى الشوارع بعفوية، عبَّرت -بصوتٍ واحد- عن رفضها المطلق لتسليم أي مواطن ليبي لأي دولة أجنبية، وهو ما حدث مؤخرًا من قبل حكومة الوحدة الوطنية، في خطوة أثارت غضبًا واسعًا بين صفوف المواطنين، واعتُبرت انتهاكًا صارخًا للسيادة الليبية، ومن الواضح أن هذه المظاهرات تمثل أيضًا إعلان وفاة سياسي واجتماعي لفبراير كمرحلة، بعدما فقدت -في نظر كثيرين- مشروعيتها ومصداقيتها، ولم تعد تمثل حتى قادتها ولا مستقبلهم. لقد عبر المتظاهرون بوضوح عن رغبتهم في إجلاء القوات الأجنبية، ورفض تغلغل الاستخبارات الخارجية، ومحاسبة الفاسدين داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسهم حكومة الوحدة الوطنية، واللافت في هذه التحركات الشعبية أنها لم تكن بدافع حزبي أو أيديولوجي، بل جاءت من رحم المعاناة، ومن ضمير وطني صادق. فليبيا، التي باتت اليوم ساحة رخوة فيها أكثر من 12 حكومة ظلّ أو سلطة موازية أو طرف متدخل، تحتاج إلى إعادة ضبط بوصلتها الوطنية. وهذا ما فعله الشعب في هذه اللحظة: استعادة زمام المبادرة، والتأكيد على أن القرار الليبي يجب أن يكون ليبيًّا خالصًا.
لقد حملت هذه المسيرات رسالة واضحة للمجتمع الدولي ومجلس الأمن مفادها: أن التغيير في ليبيا يجب أن يكون نابعًا من الداخل، من إرادة شعبية حرة، لا مفروضًا من الخارج بأجنداته المعروفة. كما أنها كشفت عن فهم عميق لدى المواطن الليبي لسياسات الغرب التي غالبًا ما تميل إلى تمييع القضايا الجوهرية وتجميل الواقع بأدوات شكلية، دون معالجة حقيقية للجذور، إن دروس هذه المرحلة تؤكد أن الشعب الليبي -رغم المعاناة والانقسام- لا يزال حيًّا، يمتلك إرادة التغيير، ويؤمن أن استعادة الدولة تبدأ من الميدان، من صوت الجماهير، لا من صالونات السياسة أو فنادق التفاهمات المشبوهة.