أزمة لا تعالج بتمويه الذاكرة

بقلم/ محمد بوخروبة
من ينظر إلى الخارطة العربية اليوم، يرى أنها تقف عند مفترق طرق بالغ الخطورة، احتمالات مفتوحة على الانفراج أو الانفجار، على التسوية أو التفكك، على البناء أو المزيد من الانهيار، لكن الإشكالية الأعمق ليست في غموض الخيارات، بل في هشاشة القواعد التي تبنى عليها المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكأن البلاد العربية تسعى إلى النهوض عبر تجميل الركام لا إزالته.
الحقيقة المؤلمة هي أن الدول العربية، حتى هذه اللحظة، لا تزال تتهرب من التعامل الجاد مع أزماتها البنيوية، وكأن ثقل الكارثة قد دفع الجميع إلى إنكار حجمها، الأزمة ليست فقط في البنى التحتية المدمرة، أو العملة المنهارة، أو المهجرين بلا عودة، بل في الوجدان العربي الممزق، في كتل الغضب والكراهية، وفي الشرخ المجتمعي العميق الذي خلفته سنوات القهر والعنف، دون أن تعالجه أي جهة بصدق وشجاعة.
ففي سوريا مثلا، خاض السوريون حربًا مركبة، متعددة الطبقات، دينية وطائفية وسياسية وجهوية، ورغم أن خطابات الوحدة والتسامح والعودة إلى الدولة، تملأ المنصات، فإن جوهر الأزمة لم يمس، لم تفتح أرشيفات السجون، لم تسم الجرائم باسمها، وما لم تتم لحظة مصارحة وطنية حقيقية، مع تحديد المسؤوليات التاريخية، فستبقى الحرب كامنة تحت السطح، حاضرة في كل بيت وذاكرة، حتى لو ساد الصمت الظاهري.
إن التعامل مع منظمات حقوق الإنسان المستقلة، التي وثقت كل مراحل النزاع، يجب أن يكون خطوة أولى نحو العدالة، لا بهدف الانتقام، بل لترميم العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، فالعدالة الانتقالية ليست ترفًا قانونيًّا، بل أساس الاستقرار المستقبلي، لأن البلدان التي تخرج من الحرب دون مساءلة، لا تخرج حقًّا، بل تغير فقط شكل المعركة، حسب المفكر السياسي الجنوب إفريقي أليستر سبارو، وفي ظل هذا التهرب من المصارحة، تتفشى الجريمة في المجتمع السوري، ليس كنتيجة طبيعية فقط لانهيار المنظومة الأخلاقية، بل كعرضٍ من أعراض غياب العدالة المنظمة، عمليات الخطف، وتجارة السلاح، وجرائم القتل العشوائي، والعصابات، هي اليوم أكثر حضورًا في حياة السوريين من أي مشروع دولة، وفي واحدة من أكبر المفارقات التي يعيشها السوريون اليوم، تطرح مشاريع إعادة إعمار طموحة تتحدث عن مدن ذكية، وأبراج فاخرة، ومراكز استثمارية توصف بأنها ستعيد سوريا إلى قلب الاقتصاد الإقليمي، ولكن من ينظر في التفاصيل يدرك أن هذه المشاريع لا تتحدث إلى السوريين، بل إلى خيال سياسي لا يعترف بأن هذه البلاد قد تغيرت، وأن شعبها صار أفقر وأضعف، وأن أولوياته لا تشبه أبدًا أجندات من يخططون على الورق.
ففي بلد يعيش غالبية سكانه تحت خط الفقر، ويواجه ملايين منه أزمة سكن مزمنة، تقدم حلول النخبة كأنها خطط وطنية، لكن الحقيقة أن الفجوة بين الواقع المعيشي والمشاريع المطروحة ليست فقط فنية أو مالية، بل تعبِّر عن انقطاع كامل في فهم من هو المواطن المستهدف بالإنقاذ.
الشعب السوري، الذي فقد بيته وأرضه ووظيفته، لا يبحث عن شقة في الطابق الثلاثين، بل عن مأوى يقيه البرد، ومدرسة لأولاده، ومستشفى، وموظف حكومي لا يطلب رشوة، لكن العدالة الاقتصادية تكاد تكون الغائب الأكبر عن المشاريع الاقتصادية المطروحة، وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن نهضة اقتصادية حقيقية دون قاعدة إنتاجية، خصوصًا في الزراعة والصناعة الخفيفة، هذا التحول الكارثي لا يعكس فقط آثار الحرب، بل سوء ترتيب الأولويات بعد الحرب، وفي هذه الأوضاع، بدلًا من توجيه الموارد إلى دعم المزارعين، وتوفير البذور والأسمدة والطاقة للمناطق الزراعية، يتم توجيه الاهتمام إلى مشاريع نخبوية تتطلب بنية تحتية متقدمة واستقرارًا أمنيًّا ومناخًا استثماريًّا لا وجود له.
الأمن الغذائي، المرتبط بمشكلة المياه، يجب أن يكون على رأس أولويات أي استراتيجية اقتصادية وطنية، فالمناطق الزراعية في الجنوب والشرق تعاني من تصحر متسارع، وتراجع في منسوب الفرات، وانعدام السياسات المستدامة، وأي خطة اقتصادية لا تبدأ من الأرض، لا تنتمي إلى البلاد، مهما بدا بريقها لامعًا، كما أن تعثر الاستثمار العربي ليس سببه فقط الخوف من العقوبات، بل انعدام الشفافية، والفساد، وتحييد دور القضاء، وانقسام القرار الاقتصادي بين مراكز قوى متضاربة لا تنتمي إلى منطق السوق، ولا إلى منطق الدولة، من يراقب الخطاب الرسمي الاقتصادي السوري يلاحظ هذا التناقض، في الوقت الذي يُقال فيه إن سوريا تمر بظرف استثنائي، يتم الحديث عن استثمارات عقارية هائلة ومناطق حرة ومشاريع سياحية فاخرة.
هذا ليس فقط تضليلًا، بل تزييفًا للإرادة الوطنية، لأن الإرادة التي لا تبدأ من ترميم المدرسة والمستشفى والبيت الريفي، لا تمثل السوريين، بل تمثِّل طبقة ضيقة تحاول النجاة فوق أنقاض الجميع، قال الفيلسوف الألماني إريك فروم، إن مجتمعًا لا يضع أولوياته بطريقة إنسانية، لا ينهار اقتصاديًّا فقط، بل أخلاقيًّا، وسوريا لا تحتاج اليوم إلى أحلام معمارية، بل إلى عقلنة اقتصادية، إلى توزيع عادل لما تبقى من الموارد، وإلى شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع، لا بين الدولة والمنتفعين.