الأضحية بين الأمس واليوم

بقلم/ د. علي المبروك أبوقرين
في أقل من مئة عام، عاش أجدادنا وآباؤنا، ونحن وأبناؤنا، على أرض الوطن في حقب تاريخية وسياقات اجتماعية وثقافية واقتصادية متغيرة، من أهم محطاتها الفترة من الثلاثينيات إلى يومنا هذا، والتي مرّت – من الثلاثينيات إلى نهاية الخمسينيات – بمحطات قاسية، حيث كانت ليبيا في الثلاثينيات تحت الاستعمار الإيطالي، وكانت الأوضاع الاقتصادية سيئة جدًا، خاصة في الأرياف والدواخل. وانتشر الفقر والمجاعة، وتعرضت البلاد لسياسات إفقار ممنهجة، وزادت الأعباء والمعاناة في الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تحولت فيها ليبيا إلى ساحة حرب ضروس دمّرت الأخضر واليابس، وانقطعت سبل العيش.
ومع تلك الظروف الاقتصادية السيئة، إلا أن الليبيين حرصوا على شعائرهم، وكانوا يتشاركون في الأضحية بين العائلات وأفراد القبيلة لضيق ذات اليد وعدم القدرة على الشراء. وكان الرعاة وسكان الريف يعتمدون على تربية المواشي، ويضحّي بعضهم من ماشيتهم إن كانت ضأنًا أو ماعزًا. وفي الخمسينيات تحسنت الأوضاع نسبيًا، ولكن عند القلة القليلة ممن كانوا في السلطة أو التجارة، أما الفقر والحاجة فكانا سائدين في كل المناطق إلى ما بعد اكتشاف النفط وبداية التوظيف. وكانت الأضحية في ذلك التاريخ تتراوح في الخمسينيات بين نصف جنيه إلى جنيهين، ولكنها كانت غالية جدًا على السواد الأعظم من الليبيين، فمع أن الأسعار منخفضة، إلا أنها كانت مرتفعة بالنسبة للدخول، وكان الليبيون يضحّون حسب مقدرتهم.
واستمر هذا الحال على الغالبية إلى فترة العصر الذهبي للرفاه من 1970 إلى 1980، وهي الفترة التي ارتفعت فيها الدخول، وزاد التوظيف، والدعم للسلع الأساسية بما فيها اللحوم، وكانت أسعار الخراف رمزية، وأصبحت كل أسرة تضحي بأكثر من خروف، وأحيانًا كثيرة كان الأب يضحّي بخروف، والأم بخروف، ويضحّون للمتوفّين كذلك. ولم يكن ذلك ترفًا، فالدولة حينها وفّرت دعمًا مباشرًا وغير مباشر للأضاحي، وقدّمت تسهيلات في النقل. واستمر هذا الدعم في الثمانينيات رغم تراجع الاقتصاد، واستمرت القدرة الشرائية للمواطنين ممتازة، واستمرت ثقافة التوسّع في الأضاحي.
وبعد الحصار والعقوبات الاقتصادية، تقلّص الدعم تدريجيًا، وانعكس ذلك على نقص المواشي وارتفاع أسعارها، ورغم ذلك استمر الليبيون في الأضحية بنفس الكيفية التي تعوّدوا عليها في السبعينيات. ومع بداية الألفية، شهدت البلاد فترات تذبذب بين الركود والتحسّن، ومع ذلك ازدهرت الأضاحي، ولم تكن الأضحية عبئًا على رب الأسرة، ولم تعانِ الطبقة الوسطى، التي كانت تشكل أكثر من 95% من الشعب، والتي لم يبقَ منها أحد الآن، حيث انحدر 90% منها إلى خط الفقر، وتزداد سرعة الانحدار للأغلبية إلى ما تحت خط الفقر.
ولم تمرّ على الليبيين مثل هذه الفترة، حيث أصبحت الأضحية عبئًا كبيرًا على المواطن، وما أشبه اليوم بعهد الاحتلال الإيطالي، وفترة الحرب العالمية الثانية، والاحتراب داخل المدن، والانتداب البريطاني الأكثر قسوة. ودلالات الفقر واضحة الآن على الغالبية، وتقلصت القدرة الشرائية إلى حدها الأدنى عند الطبقات التي على خط الفقر أو دونه، ومع فواتير العلاج السيئ، والأدوية المغشوشة، والتكاليف المعيشية الأساسية والضرورية، لم يعد بالإمكان توفير ثمن أضحية هزيلة مستوردة بعائدات النفط.
سيمرّ هذا العيد كما مرّ أيّ عيدٍ مضى، وسيضحّي كل الناس كما تعوّدوا، نسأل الله أن يعجّل بالاستقرار والنماء والازدهار لبلادنا الغالية، وأمتنا العظيمة المضحية.
عيد أضحى مبارك، وكل عام وأنتم بخير، وصحة، وعافية، وسعادة.