عمالة الأوطان.. من خنادق الماضي إلى مسارات الحاضر

بقلم/ محمود امجبر
على مرِّ العصور، كان الاستعمار يعتمد على أدواته الخاصة لتثبيت وجوده، لكن المفارقة الأكثر إيلامًا كانت، فيمن تطوعوا لخدمته، سواء طوعًا أم كرها، في صفوف جيوشه وإداراته، ليصبحوا ذراعا لضرب أبناء وطنهم.
في الحقبة الإيطالية، تطوع آلاف الليبيين لخدمة المستعمر، انضموا إلى الجيش الإيطالي لمحاربة المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم دفاعًا عن الأرض والعرض، وصل عدد المجندين إلى أكثر من (100 جندي)، بل وحصل بعضهم على نياشين وشهادات تقدير، وكأنهم صنعوا إنجازًا يستحق التكريم، في حين أن الحقيقة هي أنهم تركوا وصمة سوداء في تاريخ البلاد، لا تزال الأجيال تتوارثها بمرارة وأسى، لكن ما يثير الدهشة اليوم هو أن السيناريو يتكرر من جديد، ربما بأساليب أكثر تطورا، لكن بروح متطابقة، لم يعد الاستعمار بحاجة إلى أساطيل تجتاح المدن بالدبابات، بل أصبح يكفيه أن يدفع لمن يخدمه، لمن يحقق مكاسب سياسية أو مالية تحت مظلة الديمقراطية، بينما هو في جوهره لا يسعى إلا إلى تنفيذ أجندة المحتل، مهما تعددت راياته، سواء أكانت إيطالية أم أمريكية أم غيرها.
ما يجعل هذه الحقبة أكثر خطورة من سابقتها، هو أن العمالة لم تعد مخفية أو موضع خجل، بل أصبحت تعلن بصوت مرتفع، بلا خوف أو تردد، وأصبح المجتمع نفسه يبررها ويتعامل معها وكأنها مجرد جزء من المشهد السياسي الطبيعي، لم يعد هناك من ينبذها أو يحاربها كما كان في السابق، وأصبحت الوطنية سلاحًا يستخدم بشكل مشوّه، ليُمنح الخائن صفة الوطني، وليجرد المدافع عن بلاده من شرعيته.
على الجانب الآخر، هناك من يختار التضحية بروحه وماله وأهله من أجل قضيةٍ يؤمن بها، فيسير في دربها غير مكترث بالمغريات، محتفظًا بمبادئه التي لا تساوم، وبإيمانه الراسخ بأن الوطن ليس صفقة تجارية، بل هو هوية وقضية لا يمكن بيعها أو التفريط بها.
الغريب حقًّا، كيف يستطيع الإنسان أن يقاتل إلى جانب مستعمر غزا وطنه، شرد أهله، ونهب أرضه، ثم يعود ليتباهى بما كسبه من تلك الخدمة؟ كيف يرضى بأن يكون في صف من هدم حاضره، وربما يخطط لإبادة مستقبله؟
كما ترك المجندون الليبيون في الحقبة الإيطالية نقطة سوداء في التاريخ، فإن ما يجري اليوم سيلعنه التاريخ أيضا، وسيظل وصمة عار تلاحق أصحابها حتى الأجيال القادمة، تذكرهم الأسماء، تروي سيرهم، وتؤكد أن من اختار خيانة وطنه، لن يلقى من الأجيال القادمة سوى الازدراء والنسيان، فالوطن ليس ورقة قابلة للتفاوض، وليست الوطنية قناعًا يمكن ارتداؤه والتخلي عنه متى شاءت المصالح، إما أن تكون جزءًا من الدفاع عن الأرض، أو تكون مجرد أداة في يد من يسعى إلى إبادتها.