من خارج الصندوق.. في التيارات.. والمُتَيَّرِين!

بقلم/ مصطفى الزائدي
نجح ما يُسمى “المجتمع الدولي” في إسقاط الدولة الليبية بذريعة تحرير الشعب من الدكتاتورية والقمع وسوء الأحوال المعيشية، والترويج لنظام سياسي ديمقراطي يمكن الشعب من اختيار سلطاته في إطار التعدد والتداول والنزاهة… إلى آخر الأسطوانة! كما أطلق خطةً وهمية لبناء دولة متطورة تعج بالأبراج، وينعم شعبها بالرخاء والرفاه. والأهم من ذلك، نجح في الإمساك بكل خيوط اللعبة بيديه، وتحديد الوسائل والبدائل للوصول إلى ذلك الشكل الوهمي الموعود!
تمحور مخطط المجتمع الدولي حول فكرة أن الليبيين منقسمون، تنهشهم الصراعات القبلية والجهوية، وليسوا على مستوىً كافٍ من الوعي والإدراك للتحرك وحدهم، سواء في تحديد مطالبهم أو السعي لتحقيقها. لذلك، قرر إدارة حوارٍ عقيم بينهم، ولم يأل جهدًا في السر والعلن لزرع الشقاق وتأجيج الصراعات، وصناعة مجموعات ميليشياوية من المجرمين والتافهين، وتسليحها، وإشعال فتيل حروبٍ متواصلة، محدودة أحيانًا وواسعة أحيانًا أخرى، أتت على ما تبقى من مقومات الدولة.
الحلقة المفرغة من الحوارات السياسية الصورية، عديمة الأهداف، لم تفلح سوى في إنتاج مزيدٍ الانقسام وتعقيد الأزمة.
ليس غريبًا أن تقوم قوى اتخذت قرار تدمير الدول الصغيرة لتأمين مصالحها بالسيطرة على مواردها بذلك، لكن الغريب هو تماهي بعض من يدَّعون أنهم من النخب الوطنية مع تلك الأطروحات، والمشاركة فيها بدوافع الطمع أحيانًا، والمزايدة السياسية أحيانًا أخرى!
الانقسام الذي يحاول المجتمع الدولي تجذيره وإدارته هو الانقسام الجهوي (شرق، غرب، جنوب)، وهو واقع جغرافي فقط لا قاعدة ديموغرافية له، فليبيا بمختلف قبائلها وتكويناتها الاجتماعية منتشرة في كل المناطق، كما أن المجتمع الليبي يتميز عن غيره باتحاده القبلي وتوحُّده الديني والمذهبي، أغلبيته متساوية اقتصاديًّا إذا استثنينا بعض الفوارق التي بدأت تظهر وتتطور بسبب الفساد المستشري بشكل غير مسبوق على المستوى العالمي. لكن الليبيين، كغيرهم من الشعوب، ينقسمون سياسيًّا وأيديولوجيًّا، ويمكن تصنيفهم إلى ثلاثة تيارات رئيسية:
- التيار الديني
- التيار الليبرالي
- التيار الأخضر
وكل منها ينقسم بدوره إلى عدة توجهات، بعضها تمثل انقسامات جوهرية.
بعض النخب – وأنا منهم – يأملون ويحاولون بجدية تكوين تيار واحد قوي، يتمحور حول إعادة بناء الدولة على أسس وطنية تستجيب لمصالح الشعب، ويضم كل التوجهات الفكرية. لكن هذا الأمر أقرب إلى المستحيل، رغم الثقة في نوايا تلك الجهود، في تقديري، ما يمكن تحقيقه هو توافق جزئي ومؤقت حول بعض القضايا، خاصة الهامشية منها، دون المساس بالثوابت الأيديولوجية لتلك التيارات.
بالطبع، لا يمكن قياس حجم شعبية التيارات المختلفة لغياب آلية نزيهة لسبر الآراء، ولعدم إجراء انتخابات شاملة دون إقصاء، لكن البعض أنكر وجود بعض التيارات وتصغير حجمها مجرد شطحات وسطحية سياسية، يوجد بعض الناس ممن يظنون أنهم بمجرد كتابة منشور يستطيعون تغيير الوقائع!
يصف الليبيون من يخرج عن السياق ويسير في اتجاه واحد بأنه – متيّر– وهي كلمة عامية لا أعرف لها أصلًا في العربية، فالبعض يتيّر في كل الاتجاهات حسب تقديره لاتجاه الريح.
من سلبيات الانقسام الحقيقي للمجتمع على أسس فكرية وسياسية، بالإضافة إلى التقسيمات الجغرافية التعسفية التي يحاول المجتمع الدولي فرضها، هو استحالة الوصول إلى حلول جادة بسبب غياب المكونات الحقيقية. بمعنى، لو أُجريت حوارات بين التيارات السياسية الثلاثة بتشعباتها، لكانت قد أنتجت حلولًا للأزمة. السبب بسيط: الدول لا تُبنى بالتوافقات وحدها، فهذه تضمن الاستقرار ولا تصنعه. المطلوب هو التركيز على أسس التعايش والمساواة بين الليبيين. المهم في تقديري البحث عن حلول من خارج الصندوق الذي وضعنا فيه المجتمع الدولي وذلك يتطلب التفكير بصوت عالٍ، والإجابة عن الأسئلة الجوهرية، مثل:
لماذا فشلت كل محاولات الحوار في تحقيق توافق وزادت الانقسام؟
ولماذا فشلت الحروب في تحقيق نصر حاسم لأي طرف وبناء الدولة؟
والأهم، هل يهتم المجتمع الدولي حقًّا بأمننا ومستقبلنا، أم هو يبحث عن تأمين مصالحه من خلالنا؟
قد يبدو السؤال الأخير سهلًا، لكنه في الواقع الأصعب، لأن مواقف أطراف المجتمع الدولي متناقضة. فدول الجوار تستفيد من ليبيا مستقرة وقوية، لكن الدول الأبعد – وهي الأكثر تأثيرًا – لها أولويات مختلفة. فكيف لنا في هذا الوضع الداخلي المعقد، والوضع الدولي المتأثر بأزمات خطيرة، أن نحدد أدوار الدول المتداخلة، دون أن ننسى تغوُّل أدواتها داخلنا؟
من الظلم الحديث عن تيار وطني واحد يجمع توجهات فكرية متناقضة، فكل تيار له رؤيته الخاصة، فالتيار الديني يسعى إلى إقامة دولة “الخلافة” وإن اختلفوا في شكلها.
بينما التيار الليبرالي يريد نسخ نموذج دول الخليج التابعة للغرب. التيار الأخضر يسعى إلى بناء دولة شعبية مستقلة ذات سيادة.
لكن في الواقع، خطاباتهم كلهم متشابهة عندما يتحدثون عن الوطن لدرجة أن المرء قد يحسبهم تيارًا واحدًا!
القاعدة التي يحاول البعض التهرب من الاعتراف بها أن التاريخ علمنا أن الدول تُبنى بالقوة وليس بالتوافق. فإن كانت نوايا التيارات حقيقية، فلنتفق على الخطوة الأولى: بناء ليبيا جديدة مستقلة من خلال دعم المؤسسة العسكرية والأمنية في الشرق والغرب، مع وضع ضوابط تمنع استحواذها على السلطة.