السياسة النقدية في ليبيا.. إدارة للأزمات في غياب الأدوات

بقلم/ عثمان الدعيكي
في ظل الواقع الاقتصادي المتأزم الذي تعيشه ليبيا، يجد مصرف ليبيا المركزي نفسه عاجزًا عن تنفيذ سياسة نقدية فاعلة، في بيئة يغيب فيها الاستقرار وتتعطّل فيها الأدوات التقليدية التي تعتمد عليها البنوك المركزية لضبط السيولة وكبح التضخم وتحفيز النمو. المشهد الليبي يحوِّل دور المصرف المركزي للتعامل مع الأزمات بدلًا من قيادتها، حيث تُدار السياسة النقدية في إطار ظروف طارئة وأولويات مالية قصيرة الأجل، لا تنسجم مع معايير الاستدامة والإصلاح الهيكلي.
من أبرز معضلات السياسة النقدية في ليبيا تعطيل سعر الفائدة بموجب القانون رقم (1) لسنة 2013، الذي حرّم التعامل بها دون استبدالها بأدوات تمويلية إسلامية قادرة على تنظيم السيولة أو تحفيز الادخار. وقد أدى هذا الخطأ التشريعي إلى شلِّ قدرة المصرف على مواجهة التضخم أو إدارة السيولة بكفاءة، بينما ظلَّت البدائل المطروحة غير كافية أو غير مطبَّقة بشكل عملي.
في هذا الإطار، تؤكد التقارير السنوية للمصرف أن أكثر من 60% من الكتلة النقدية تتداول خارج القطاع المصرفي، وهي نسبة تعكس انهيار ثقة المواطن بالمصارف واعتماده الكامل على التعامل النقدي المباشر، ما يُضعف سيطرة المصرف المركزي على التدفقات النقدية ويُعقّد مهام الرقابة. كما أن الإنفاق الحكومي غير المنضبط الذي يستهلك أكثر من 85% من إيرادات الدولة في المرتبات والدعم وخدمة الدين العام يُفاقم الأزمة، إذ يحوِّل السياسة النقدية إلى أداة لتمويل العجز المالي بدلًا من كونها ضامنة للاستقرار الاقتصادي.
ورغم توحيد سعر الصرف رسميًّا في 2021، وما تلاه من تخفيض قيمة الدينار، وفرض رسوم على بيع العملات الأجنبية، فإن الفجوة تزداد بين السوق السوداء والسعر الرسمي، ما يؤكد فشل السياسات الحالية في تحقيق توازن حقيقي بين العرض والطلب. أما التضخم، فتقدر بيانات المصرف المركزي وصندوق النقد الدولي أن معدله بلغ 5.8% لعام 2023 على أساس سنوي، مع وجود تضخم أعلى في قطاعات السلع الغذائية والخدمات الأساسية، وهو تضخم لا تعكسه البيانات الرسمية بدقة، لكن المواطن يشعر بأثره في حياته اليومية.
هذه المؤشرات تكشف أن المصرف المركزي يعمل في بيئة مؤسسية هشّة، تفتقر إلى أدوات السوق المفتوحة، وتعاني من محدودية النشاط المالي، وضعف البيئة التشريعية، وتراجع الإنتاج المحلي. كما أن سنوات الانقسام المؤسسي خلّفت إرثًا من التقارير غير الموحَّدة والرقابة المشتَّتة، ما أعاق إدارة متكاملة للدين العام أو تمويل الدولة بشكل مستدام. ورغم الإعلان عن توحيد المصرف في أواخر 2023، تبقى تحديات الهيكلة الداخلية وإصلاح أنظمة الرقابة عقباتٍ أمام أي تحوُّل جذري.
إن استمرار هذا الوضع يفرض إعادة نظر شاملة في هيكل السياسة النقدية، بدءًا من تعديل الإطار القانوني لسعر الفائدة بما يتوافق مع النظام المالي الإسلامي دون إلغاء وظيفته الاقتصادية، مرورًا بإصلاح الجهاز المصرفي لاستعادة الثقة، ووصولًا إلى فصل السياسة النقدية عن التمويل المباشر للإنفاق الحكومي العشوائي. فبدون هذه الإصلاحات، سيظل المصرف المركزي أسير السياسات الانكماشية، بينما يدفع المواطن الثمن من مدخراته وقدرته على العيش الكريم.