مضمَّخةٌ بطيبِ الجنة
بقلم/ مريغان المنفي
أرواحٌ تعيشُ معنا، تأكل وتشرب وتحيا بيننا، لا ندري أبدًا أنها معجونةٌ بماءِ الفخار، وأنها تشبهنا فقط في الشكل، أما المضمون فإنه على موعدٍ مع أقدارٍ لا تُشبه الأقدار.
اسمٌ مثل علي الرياني يمرُّ كومضةِ ضوء.. برهةٌ من التفكير في آلاف القضايا والمواقف والأحداث، محورها: كيف يكون انقضاء القرار بالموت دفاعًا عن الشرف والقيم والأخلاق؟ أعلم أن هناك آلافًا قد قرروا مثل هذا القرار، ومنهم من لامسته عن قرب وأعرفه كما أعرف نفسي، ولكن التوقيت يختلف تمامًا.. فحين يعمُّ الموت، يتحول القتل إلى لوثة يتساوى فيها القاتل والمقتول، بينما، والشخص في حالة دَعَة وبدون مقدمات كبيرة، يصبح التنازل عن الحياة في سبيل الموقف.. المعتقد.. الكرامة.. شأنًا كبيرًا يجب الوقوف عنده واستخلاص العبرة منه.
على المستوى المنهجي، حاولت الفلسفة تفسير البطولة والإقدام، فقدَّم لنا المنهج الفردي الليبرالي البطولة على أنها فعلٌ فردي، محوره عوامل فيزيوقراطية بحتة، وهذا تفسير يعتقد نفسه دغمائيًّا، رغم أنه يُحيلنا إلى فراغٍ من التفسيرات بلا نتيجة. وتعبِّر الماركسية عن البطولة بأنها أولئك الذين هبُّوا في مواجهة السماء، دون أن تقدم وصفًا لمن هبُّوا، ولا ما حدث لهم بعد ذلك. ورغم أن النظرية الاجتماعية تُفسر العلاقة بين قضايا المجتمع والبطولة، فإن هناك رابطًا شرطيًا بأن تلك البطولة أداةٌ لصنع التاريخ وليست انفرادًا ذاتيًّا ولحظةً شخصية جدًّا، لذلك لا نركن إليها في تفسير ما قام به هذا البطل.
إنَّ الشعوب دائمًا بحاجة إلى أبطال.. فالبطولة نموذجٌ ومثالٌ حي يجسد القيم العليا ويحقق الإشباع الذاتي لمفهوم الهوية الوطنية، ويعمل كدليل صدق أثناء إعلاء الذات، سواء المجتمعية أو الفردية. والبطولة بمعناها هذا ليست تجربةً فردية أبدًا، فعلي الرياني.. الليبي.. العربي.. لا يمكن فصله عن واقعه الاجتماعي، وإن كان يُمثل فيه تميزًا وتفردًا.
إنَّ الشعوب تحتاج إلى البطولة، لأن البطل يختصر على المجتمع عبء مقاومة الظلم والاضطهاد، ويمارس في مخيلة الشعب أمنيات دحر العدوان وقيام الحقوق ورفعة شأن المواطن. لذلك، صنعت بعض الأمم أبطالها عندما عجزت واقعيًّا عن إنتاج البطولة، وتعتاش الأفلام والمسلسلات المرئية على بعض هذه الحقائق.
ولذلك، فإنَّ اختفاء الدور البطولي، واختفاء الأبطال من حياة الشعوب، هو بداية النهاية لوجودها، وعلامة من علامات موتها واندثارها. وأيضًا، فإن الاعتماد الكلي على الخيال في إنتاج الأبطال أو الصور البطولية عنهم، هو أيضًا علامة موت، ولكن بدون اندثار، بل سكونٌ يشبه ركود الماء ورائحة تزكم الأنوف، وتزايدٌ للكائنات الطفيلية.
إنَّ البطل، وهو في صدارة الموقف وفي عُرسه التاريخي، من المؤكد لن تُشغله التفسيرات ولا المآلات، لكنها تشغلنا نحن.. ونحن نستنهض الهمة، ونثير المعنويات، ونؤكد أصالة الفعل في سبيل الوطن.. ونشير بالكلمة وبالقلم إلى العلاج الناجع، وإلى الدواء الباتِّ، لكيلا تتكرر مثل هذه الفواجع في بلادنا. فرغم بطولة علي الرياني وشرف موقفه، كم من قلوبٍ مكلومة وراء الستار لا نراها؟ وآلاف الذكريات تعتاش عليها عيون دامعة خلف الأبواب؟ وهذا حالٌ يمكن أن يتعرض له كل من أدت به الظروف للعيش في مدن خارج إطار القانون.