طرابلس عاصمة على فوهة بندقية

بقلم/ فرج بوخروبة
في قلب العاصمة الليبية، وبين مبانيها المرهقة بالانتظار، وذاكرتها التي لم تبرأ من الدخان والرصاص، تتكرَّر الحكاية المؤلمة: اشتباكات بين فصائل مسلحة، وتصفية حسابات تتنكر بلباس الدولة، بينما المواطن يحبس أنفاسه ويبحث عن بصيص أمان لا يأتي.
لم تكن الاشتباكات الأخيرة في طرابلس استثناءً، بل هي امتداد طبيعي لمعادلة معقدة تتحكم في المدينة منذ سنوات. معادلة لا تقوم على القانون، بل على توازن هش بين جماعات تتقاسم النفوذ بقوة السلاح وتفرض واقعًا ميدانيًّا على مؤسسات رسمية باتت عاجزة عن الفعل أو حتى الإدانة.
في كل مرة تُطلق فيها شرارة نزاع مسلح، يتكشف وجه جديد من أوجه الانهيار المؤسساتي في طرابلس. فالصراع لم يعد يدور بين الدولة وعدو خارجي، بل بين كيانات محلية تتمتع بغطاء سياسي وتتحرك وفق أجندات مصالح.
الحكومة، برئاساتها المتعددة، تبدو كمن يُمسك بالريشة بينما خصومه يكتبون بالمِعول. لا صوت يعلو فوق صوت السلاح، ولا قرار يمضي دون رضا القوى المسيطرة على الأرض.
الاشتباكات التي اندلعت مؤخرًا بين مجموعات مسلحة، والتي أسفرت عن ضحايا وإغلاق لمرافق عامة ومطار العاصمة، تحمل في طياتها رسائل كثيرة. فهي أولًا مؤشر على هشاشة البنية الأمنية في العاصمة، وثانيًا تأكيد على أن موازين القوة قابلة للتبدل في أية لحظة.
ما يجري ليس فقط منافسة بين فصائل، بل صراعًا على مفاصل الدولة: من يسيطر على الجهاز الأمني؟ من يدير المعابر والمنافذ؟ من يملك حق اتخاذ القرار في غياب برلمان فاعل أو سلطة مركزية محترمة؟
الواقع في طرابلس بات يشي بأن شرعية السلاح سبقت شرعية القانون. هذا الوضع لا يُهدد فقط العاصمة، بل يُهدد مشروع الدولة الليبية برمَّته. التعايش القسري بين الحكومة والمجموعات المسلحة أوجد مناخًا سمح لهذه الأخيرة بأن تكون شريكًا في القرار، دون أن تكون مسؤولة عنه أمام الشعب أو القانون.
بينما تغرق طرابلس في دوامة التوتر، يبرز الشرق الليبي بمشهد أمني أكثر انضباطًا، وإن كان سياسيًّا مختلفًا. هذه المفارقة تجعل من الكيان الليبي المتشظي صورةً واقعية: مدن بمناخات متباينة، وسلطات تتفاوت في قدرتها على فرض الأمن، ومواطنون يدفعون ثمن الخلافات من أرواحهم وحياتهم اليومية.
المستقبل القريب لا يبدو مطمئنًا. فكلما تأخرت المصالحة، وتراخت جهود إعادة بناء المؤسسة الأمنية، ستبقى طرابلس عاصمة “بالاسم”، وميدانًا “بالواقع” لصراع المصالح والولاءات، أي أمل في الانتخابات أو الاستفتاء سيظل مؤجلًا ما دامت فوهات البنادق تصوغ جدول أعمال العاصمة. وأي حكومة، مهما كانت شعبيتها، ستظل رهينة من يملك الأرض، لا من نال الشرعية في صناديق الاقتراع.
يبقى السؤال الملحُّ: من يملك القرار في طرابلس؟ هل هو مجلس الوزراء، أم قادة الكتائب، أم سفراء الدول الكبرى؟ وهل ما زالت طرابلس قادرة على أن تكون عاصمة لجميع الليبيين، أم أنها تحوّلت إلى ساحة مفتوحة للتجاذبات المسلحة؟ نحن أمام لحظة فارقة في تاريخ ليبيا، إما أن تُستعاد العاصمة بسيادة القانون، أو تُترك تنهار تدريجيًّا في ظل صراعات لا رابح فيها سوى الفوضى!