مقالات الرأي

طرابلس النار من جديد 

بقلم/ عبد الله ميلاد المقري

ما تعيشه العاصمة طرابلس هذه الأيام يعيد إلى الأذهان مشاهد الفوضى والصراع الدموي المتكرر على مغانم السلطة، حيث تتقاطع الأجندات المحلية مع التدخلات الخارجية لتجعل من المدينة ساحة مفتوحة للانفلات الأمني، وملاذًا للفوضى المسلحة التي ترعب السكان وتبدد آمالهم في الاستقرار، في ظل غياب الدولة الموحدة، وتمزق مؤسساتها بين أطراف متنازعة، تحولت طرابلس إلى مدينة لا يسودها سوى القلق والترقب، إذ تتكرر الاشتباكات المسلحة في الأحياء السكنية المكتظة، لتخلف ضحايا ودمارًا وتهجر أسرًا من بيوتها، فيما يترعرع الأطفال في أجواء من الرعب والخوف، ما يؤثر على مداركهم ويغذي فيهم ثقافة العنف واللا استقرار. 

المعارك الأخيرة التي شهدتها أحياء العاصمة، خاصة صراع ميليشيا أبو سليم مع فصيل مسلح آخر، كشفت عن الوجه الحقيقي للواقع الأمني الهش، حيث تستخدم الأحياء الشعبية كساحة للقتال، فيما لا يوجد من يكسب هذه المعارك سوى المعتقلات السرية والمقابر الجماعية، التي باتت شواهد مأساوية لتاريخ دموي لم يتوقف منذ نكبة 2011.

لقد كان العدوان الأطلسي على ليبيا، الذي استمر لثمانية أشهر بالقصف البحري والجوي، شرارة الانهيار الوطني، حيث فُتحت أبواب البلاد أمام الميليشيات، وتحوَّلت الدولة إلى كيان فاشل تحكمه العصابات المسلحة، وتبتز فيه السلطة نفسها، وتتحكم في مصير الناس وأرزاقهم. 

المريب في الاشتباكات الأخيرة، أنها سبقت بمطالب دولية عاجلة من منظمات وسفارات بإخلاء موظفيها من العاصمة، وهو ما يرجح فرضية التدخل الخارجي في تأجيج هذا الصراع، ضمن محاولات تصفية حسابات داخل السلطة ذاتها، أو إعادة رسم خارطة القوى على الأرض، تمهيدًا لمرحلة سياسية جديدة يجري التفاوض حولها بين البعثة الأممية والدول المتدخلة في الشأن الليبي.

وتفيد بعض المعلومات أن هناك اتجاهًا دوليًّا، بعد مقتل قائد ميليشيا أبو سليم، لتوجيه رسائل قاسية لبقية قادة التشكيلات المسلحة، بهدف دفعهم إلى الانخراط الفردي في المؤسسة العسكرية، تمهيدًا لتوحيدها، وهو ما قد يقود إلى حكومة موحدة تدير البلاد بحد أدنى من التوافق، خاصة مع اقتراب انتهاء أعمال اللجنة المكلفة من البعثة الأممية لرسم المرحلة المقبلة. ورغم صعوبة تحقيق هذا السيناريو في ظل الانقسام العميق، فإنه يظل الخيار الأقرب لتصورات اللاعبين الدوليين الذين يسعون إلى إنتاج سلطة جديدة قادرة على قيادة البلاد نحو انتخابات قادمة، ولو من خلال توافق هش، يفرضه واقع القوة لا الإرادة الشعبية.

طرابلس، كما ليبيا بأكملها، بحاجة إلى دولة حقيقية، لا إلى صفقات سياسية ومشاريع مؤقتة، فمعاناة الليبيين لا يمكن أن تنتهي إلا بدولة القانون، والقوات المسلحة العربية الليبية الموحدة الضامنة لأمن الليبيين، وسلطة تنفيذية سياسية مختارة من الشعب ديمقراطيًّا لا تخضع للابتزاز، ولا تسمح بتحويل العاصمة طرابلس إلى رهينة في يد أمراء الحرب.

زر الذهاب إلى الأعلى