حين تتحول الديمقراطية إلى غنيمة
بقلم/ فراس حجازي
تشهد ليبيا هذه الأيام، وتحديدًا العاصمة طرابلس، حالة من الغليان الشعبي غير المسبوق، بعد اغتيال أحد قادة الميليشيات المسلحة التي تسيطر على مفاصل الأمن والاقتصاد في العاصمة. الحدث لم يكن مجرد عملية تصفية بين المجموعات المتصارعة على النفوذ، بل كان الشرارة التي فجَّرت غضب الشارع، حيث خرج آلاف من سكان طرابلس في مظاهرات رافضة للاقتتال، رافعين شعارات تُطالب بإسقاط الحكومة التي يرونها مسؤولة عن تغذية الفساد والانقسام، وعن الإنفاق المفرط الذي أنهك الاقتصاد الليبي، وأدى إلى تفاقم عجز الميزانية، وارتفاع الأسعار، وتدهور الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية. الوضع الاقتصادي المتردي بات يُترجم يومًا بعد يوم إلى معاناة معيشية حقيقية، تفقد المواطن قدرته على توفير الحد الأدنى من احتياجاته الأساسية.
في خضم هذا المشهد المأزوم، يبرز سؤال جوهري: ما السبب الحقيقي وراء استمرار هذا الانهيار؟ هل هو مجرد فشل أفراد، أم أن الخلل أعمق، يكمن في طبيعة النظام السياسي المتبع نفسه؟
منذ 2011، انتقل الليبيون – أو بالأحرى، فُرض عليهم – تبني نظام حزبي تمثيلي تقليدي، يُفترض أنه يقوم على الانتخابات والديمقراطية. لكن ما حدث فعليًّا هو أن هذا النظام تحوَّل إلى وسيلة لاحتكار السلطة من قبل طبقة سياسية محدودة، تتقاسم النفوذ عبر التفاهمات والتحالفات، لا عبر تفويض حقيقي من الشعب. مجلس النواب الحالي، على سبيل المثال، موجود منذ عام 2014 دون أي انتخابات جديدة، ويتذرع بالوضع الأمني للبقاء، رغم أن هذا العذر لم يمنع أعضاءه من السفر، وتمرير الميزانيات، والتشريع لأنفسهم بمرتبات خيالية، وامتيازات واسعة تشمل الجوازات الدبلوماسية، وبدلات السكن، والتنقل، دون أن يُقدِّموا أي فائدة تُذكر للمواطن الليبي.
هذا الاختلال البنيوي ليس استثناءً في النظام الحزبي، بل هو أحد عيوبه الجوهرية. فالتمثيل في هذا النظام يتم عبر وكلاء سياسيين – نوابًا وأحزابًا – يفترض أن ينوبوا عن الشعب، لكنهم سرعان ما يتحولون إلى طبقة منفصلة عن الناس، محمية بالحصانة، وبالامتيازات، وبدون رقابة مباشرة. المواطن لا يملك سوى الانتظار حتى الانتخابات القادمة – إن حدثت – لمحاولة التغيير، بينما تستمر المعاناة.
النظام الحزبي أيضًا يُسهم في زيادة الإنفاق العام، حيث تتحول المناصب التشريعية والتنفيذية إلى وظائف يتقاضى أصحابها رواتب عالية، وبدلات، ومعاشات تقاعدية، تُثقل كاهل الدولة، وتفتح بابًا واسعًا للفساد والصفقات.
على النقيض من ذلك، يقدِّم النظام الجماهيري نموذجًا مختلفًا، يقوم على المشاركة الشعبية المباشرة، حيث يُلغى التمثيل بالنيابة، ويشارك المواطن بنفسه في المؤتمرات الشعبية الأساسية، التي تُعقد في نهاية كل سنة مالية، ويناقش فيها المواطنون مباشرة السياسات والخطط والميزانيات، ويصعدون من يرونه مناسبًا لتنفيذها، ويحاسبونه بعد ذلك. لا حصانات، ولا رواتب مضاعفة، ولا امتيازات دائمة.
في النظام الجماهيري، لا وجود لطبقة سياسية محمية، ولا يمكن لأي شخص أن يتحصن بمنصب، لأن المسؤولية وظيفة مؤقتة تُسند إلى المواطن القادر، ثم يعود بعدها إلى عمله الأصلي، دون أن يُمنح معاشًا خاصًّا أو جوازًا دبلوماسيًّا. الإعلام الجماهيري أيضًا يكون مستقلًّا، ويخضع للقوانين التي يقرها الناس، لا لتوجيهات السلطة أو المال السياسي.
والأهم من ذلك، أن غياب الانتخابات الدورية لا يعني غياب المحاسبة، بل العكس: المحاسبة في النظام الجماهيري أكثر انتظامًا وفاعلية، لأنها لا تنتظر سنوات، بل تحدث سنويًّا أو عند الحاجة، في جلسات طارئة يشارك فيها الشعب مباشرة. وهذا ما كان يمكن أن يحل أزمة الانسداد السياسي الحالي في ليبيا، لو كان هذا النظام مطبقًا. فبدلًا من انتظار توافق النواب أو ترتيب انتخابات معقدة، كان بإمكان كل مؤتمر شعبي أساسي في منطقته أن ينعقد، ويناقش الوضع، ويغير ممثليه، ويشارك في اتخاذ القرار الوطني.
العدالة الاجتماعية ليست مجرد شعار في النظام الجماهيري، بل واقعًا عمليًّا: لا أحد فوق القانون، ولا أحد يتمتع بامتيازات دائمة، ولا يُعقل أن يعيش المسؤول في رفاهية بينما يعاني الناس غلاء المعيشة. في حين أن النظام الحزبي، كما نراه اليوم في ليبيا، يكرِّس الفوارق الطبقية، ويُحصِّن السلطة، ويحُول دون مساءلتها.
ما يحدث في ليبيا اليوم ليس فقط نتيجة فشل في الإدارة، بل نتيجة فشل في اختيار النموذج السياسي. النظام الحزبي التقليدي لا يناسب البيئات المنقسمة والمجتمعات التي لم تُمارس الديمقراطية الحزبية بشكل مستقر، بل يعمِّق الانقسام، ويُعيد إنتاج نفس الطبقة الفاسدة. في حين أن النظام الجماهيري – رغم ما يحتاجه من وعي وتدرج في الممارسة – يبقى الخيار الوحيد الذي يعيد السيادة الحقيقية إلى الشعب، دون وسطاء، ودون نخبة مغلقة، ودون انتظار انتخابات قد لا تأتي أبدًا.
ورغم أن من أكثر الانتقادات التي وُجِّهت للنظام الجماهيري سابقًا تدخل القذافي وتوجيهه للمسارات، فإن هذه الحجة أصبحت غير قائمة بوفاته، ولم تعد مبررًا منطقيًّا لرفض النظام بأكمله، خاصة بعد أن أثبت الواقع أن غياب القذافي لم يحلِّ شيئًا من مشاكل البلاد، بل تفاقمت الأزمات في ظل نظام تمثيلي تحكمه النخب الحزبية والمصالح الخاصة.
لقد آن الأوان لإعادة التفكير في النموذج الذي يحقق سيادة الشعب فعليًّا، لا شكليًّا، ويمنح المواطن الحق الكامل في صنع مستقبله دون وسطاء أو طبقات سياسية متسلطة. النظام الجماهيري، إن تم تبنِّيه بوعي وتطوير، يظل الأقرب لتحقيق هذه الغاية.