ما الإنسان؟ المداخلة السابعة عشرة: منهج التفكير 3
بقلم/ مهدي امبيرش
من خلال المداخلات السابقة كانت المحاولة لتقديم مقاربة لمنهج التفكير العربي، حيث أكدنا أن منهج التفكير هو الذي يحدد مسار العمليات التي تتم في الذهن والتي وعيًا وإرادةً تكشف عنها الكلمة، التي أشرنا في أكثر من موضع إلى أنها ليست اللفظ، بل هي مشيئة وإرادة المتكلم الذي يجعل من الكلام مسؤولية، أي يمكن أن يكون موضع سؤال من غيره، أو عملية مشاركة من خلال التساؤل عن المفاهيم التي يقصد بها المتكلم الإعراب عن قصديته وهدفه وغايته.
قد يكون الذين تتبعوا هذه المداخلات قد أدركوا أن اللسان العربي يكشف عن قصة خلق الإنسان من تراب إلى أن صار إنسانًا بالنفخ فيه من روح الله. فخلق الإنسان من تراب يكشف عن الجانب المادي في الإنسان، والذي قلنا إنه يخضع لقانون المادة، مثال ذلك الطاقة التي تُصرف بقدر المفهوم وعبوره إلى السامع، وأن الحركة إضافة إلى الطاقة الفيزيائية تكشف عن حيوية، وهو ما جعلنا نؤكد على أهمية التفكير في الرموز الخطية التي هي إشارات لعلامات، مع التنبيه والتذكير بأن الإشارة ليست العلامة، فإشارات المرور مثلًا غير العلامات التي توضع لتحديد المسار، كالتي عبر عنها القرآن بالنجوم التي هي علامات على قدرة الله تعالى.
كما يأتي ضمن وسائط التعبير أو عبور الأفكار استخدامنا للرمز، وربما يأتي أكثر تعميةً من الإشارات. أما الروح فهي التي قصدنا بها هذه الإرادة في إحداث الفعل الكلامي، إضافة إلى عمليات الإبداع والاستخدام الجمالي، من أجل إعطاء أبعاد أكثر من المفهوم المباشر، ونقصد بذلك ما يعرف بالبلاغة. فالبلاغة لا يمكن إخراجها عن منهج التفكير وعن هذه العمليات التي تتم في الذهن، ومن الخطأ الذي أسهم في بُعدنا عن الاستخدام البياني في اللسان العربي، إضافةً إلى التركيز على قواعد اللغة دون التفكير في نحو اللسان ومنهجه، حيث البلاغة هي عملية بيانية كذلك، أو عملية لا تنفصل عن البيان اللساني.
فالتقسيم الذي أحدثه السكاكي في كتابه مفتاح العلوم وتقسيم البلاغة إلى ثالوث: البيان، المعاني، البديع، الذي ببساطة يمكن أن ندرك أن هذا التقسيم تقسيم مدرسي، وربما يمكن لنا الحكم عليه أنه تقسيم تعسفي، إذ لا بلاغة بدون بيان ووضوح، كما أن السكاكي وكثيرين غيره لا يفرقون بين المفهوم والمعنى، الذي سبق أن ذكرنا أن المعاني مطلقة لا يمكن إدراكها ولا التعبير عنها، وأن أقصى ما نبذله من جهد هو إيضاح المفاهيم. وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه الكاتب والأديب المعتزلي واللساني الجاحظ، في كتابه البيان والتبيين، والذي جاء استجابةً لنسق الأفكار الاعتزالية (الأيديولوجيا)، حيث ذكر أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، مع تأكيدنا خلاف ذلك، كما سبق أن ذكرنا بإطلاق المعاني، ولأن المعاني لا يمكن إدراكها أو التعبير عنها.
مثال ذلك اسم المعنى “الجمال” أو “القبح”، فيمكن لنا أن نتحدث عن الصفة كالجميل والقبيح، وبذلك فالجاحظ يهتم بالألفاظ لأنها تدل على مفاهيم معقولة، والعقل أو التعقل يقع ضمن نسق التفكير المعتزلي. ولأننا سوف نتناول شواهد على أهمية الدراسات اللسانية واللغوية الأعجمية، وعقد مقارنة بين اللسان العربي والألسن الأعجمية، التي تكشف عن أهمية منهج التفكير وإنتاج الأفكار ووسائل التعبير عنها، والتي ذكرنا أنها كانت ولا تزال تعكس أزمةً، فالتفكير الأعجمي، والذي ذكرنا أن أول ما تم تعليم آدم عليه السلام، كان العلاقة بين الاسم والمسمى، وكيف أن الملائكة لا تعرف الأسماء ولا العلاقة بين الاسم والمسمى التي تعلمها آدم، والتي نفهمها من قوله تعالى مخاطبًا الملائكة:
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
فالآية توضح أولًا أن الله تعالى هو الذي خلق الموجودات التي أطلق عليها الأسماء، وهي قضية سوف نقرؤها في المداخلة القادمة، واحدةً من القضايا التي طرحها اليوناني أفلاطون في محاورة (كراتيلوس) والسفسطائي. فالله تعالى كما أشرنا هو الذي خلق هذه المسميات الأولى وأعطاها أسماءها. وبذلك تم الربط بين الاسم والمسمى، وهذا ما يؤكده اللسان العربي، خلاف الألسن الأعجمية، الذي سبق أن ذكرنا أن اللساني السويسري دو سوسير، وهو أحد مؤسسي التركيبية، التي تُرجمت إلى العربية على أنها البنيوية، حيث ذكر دو سوسير أن العلاقة بين الدال والمدلول في هذه الألسن علاقة اعتباطية.
الفرق يبدو واضحًا هنا بين اللسان العربي الذي يتأسس على علاقة عضوية خلوية حيَّة، واللسان الأعجمي الذي يتركب من ذرات مستقلة داخل الشكل.
يتبع