الذكاء الاصطناعي وتضليل الوعي
بقلم/ فرج بوخروبة
في زمن تُصاغ فيه الحقائق بخوارزميات، ويُعاد تشكيل الرأي العام بمقاطع مصوَّرة ومحتوى مُفبرك، يقف الذكاء الاصطناعي على مفترق خطير بين التقدُّم والتضليل، فبينما يُحدث ثورة معرفية في ميادين التعليم، والصحة، والصناعة، يتحوَّل في سياقات هشَّة إلى أداة خطيرة لتزييف الوعي، ونشر الشائعات، وتأجيج الصراعات.
منذ أكثر من عقد، يعيش الوطن حالة من الفوضى السياسية والمؤسساتية، وهو وضع جعل من الفضاء الرقمي الساحة الأوسع لتشكيل الخطاب العام. في غياب سلطة إعلامية موحدة، ومع تعدد الجهات الفاعلة، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مصدرًا رئيسًا للمعلومة، لكن دون ضمان لمصداقيتها، وهنا تسلَّل الذكاء الاصطناعي، ليس كوسيلة للتطوير، بل كمحرِّك للفتن.
أبرز ما يثير القلق هو الانتشار الواسع لتقنيات “التزييف العميق” (Deepfake)، التي تمكِّن من إنتاج فيديوهات وصوتيات مزوَّرة توحي بواقع لم يحدث. مقاطع يظهر فيها قادة سياسيون أو عسكريون وهم يصرِّحون بأقوال لم تصدر عنهم، أو تُسرِّب “محادثات” مفبركة تُستخدم للتحريض أو التشويه أو بث الفتنة بين مكونات المجتمع. هذا النوع من التضليل قد يكون كافيًا لإشعال صراع، أو تعطيل مسار سياسي، أو قلب المزاج العام في لحظات حرجة.
ولا يتوقف الأمر عند الصورة والصوت. فالذكاء الاصطناعي قادر على إنتاج نصوص وشائعات دقيقة في أسلوبها، مؤثرة في لغتها، تستهدف جمهورًا محددًا، وتُزرع في الفضاء الرقمي كألغام ناعمة، مئات الحسابات الوهمية على “فيسبوك” و”تويتر” وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي تديرها جهات مجهولة، تُغذِّيها أنظمة توليد المحتوى الاصطناعي، تُعيد تدوير الروايات، وتضرب مصداقية المؤسسات والشخصيات العامة، وتغذِّي خطاب الكراهية، وقد أظهرت عدة تقارير صحفية ومراقبات ميدانية كيف استُخدمت هذه الأساليب في محطات مفصلية من المشهد الليبي، سواء خلال الانتخابات المؤجَّلة، أو أثناء محاولات التهدئة بين أطراف النزاع، أو حتى عند وقوع حوادث أمنية أو اختلالات خدمية. يُفبرك الخبر، ويُنسَب إلى مصدر وهمي، ويُتداول على نطاق واسع في ظرف ساعات، قبل أن يتم نفيه بعد فوات الأوان.
الخطورة لا تكمن فقط في سهولة التضليل، بل في البيئة الليبية نفسها، التي تتسم بتوتر اجتماعي وتداخل قبلي وغياب الثقة بين المكونات، ففي مجتمعٍ تسهل فيه الاستثارة القبلية، وتُوظّف فيه الإشاعة كأداة صراع، قد يؤدي منشور زائف أو تصريح ملفق إلى زعزعة الاستقرار المحلي، أو إعادة إحياء نزاعات طُويت مؤقتًا.
ولعلّ ما يُفاقم المشكلة هو ضعف الثقافة الرقمية، وغياب منصات تحقق وطنية فاعلة، وتقصير الإعلام المهني في التصدي للمحتوى الزائف، المواطن الليبي في الغالب لا يمتلك أدوات التحقق من صحة الخبر، فيُسهم – دون وعي – في إعادة نشره، ويقع ضحية ومشاركًا في ذات الوقت.
لمواجهة هذا الخطر المتفاقم، ثمة حاجة ملحّة إلى استراتيجية شاملة: تعزيز التربية الإعلامية والرقمية في المدارس والجامعات، وتثقيف الجمهور حول كيفية التحقق من الأخبار، والتعرُّف على تقنيات التضليل.
تطوير إطار قانوني يجرِّم استخدام الذكاء الاصطناعي في فبركة المحتوى الموجَّه للإضرار بالأمن الاجتماعي أو تشويه السمعة، مع إنشاء وحدات تقنية لمتابعة ورصد هذه الأنشطة.
دعم منصات محلية للتحقق من الأخبار، مستقلة وشفافة، تكون مرجعًا للمواطنين ووسائل الإعلام في آنٍ واحد.
تشجيع المؤسسات الإعلامية على تبنِّي أدوات الذكاء الاصطناعي الإيجابي، لتحسين جودة التغطية، لا لتحريف الحقيقة، ولرصد الشائعات وتفنيدها بسرعة ومهنية.
إن الذكاء الاصطناعي ليس شرًّا في ذاته، لكنه يتحوَّل إلى خطر عندما يُستخدم بغير ضمير، وبين أيدينا اليوم أداة يمكن أن تنهض بليبيا أو تُغرقها في المزيد من الشك والفوضى، الخيار ليس تقنيًّا فقط، بل أخلاقيًّا وثقافيًّا في المقام الأول، فليبيا، في مسعاها نحو الاستقرار والمصالحة، تحتاج إلى إعلام مسؤول، ومجتمع رقمي واعٍ، وقانون عادل، لا إلى خوارزميات مسمومة تقتات على انقسامنا وتغذِّي فتنتنا.