مقالات الرأي

المداخلة السادسة عشرة: منهج التفكير 2

بقلم/ مهدي امبيرش

الذين تتبعوا مسار هذه المداخلات قد يكونون أدركوا أن الغاية منها ليست في تناول قواعد اللغة، ولا حتى اللسان، حيث إن القواعد دليل النحو، أي اللسان، مثلما اللسان يكشف عن منهج التفكير. هنا يكون تأكيد الحق تبارك وتعالى على اختلاف الألسن والألوان على أنها علامات على قدرة الله، والعلامة لا تكون إلا دليلًا على الموجود المتحقق، وهي غير الإشارة والرمز. حتى إننا قلنا إن كل آية في القرآن علامة على متحقق في الكون والإنسان، وأنه يجب أن نتتبع هذه العلامة للوصول بها إلى الغاية، أي منهج التفكير.

لقد ذكرنا أن مصطلح الذهن في العربية أوسع من العقل؛ فالعقل قدرة من قدرات الذهن، وربما البيان العربي يحدده أكثر، أي أن هذه القدرة تضع حدودًا للموجود أو الموضوع الذي يتخذ وضعًا، ولا يتخذ وضعًا إلا للذي له حدود منطقية، وبهذا فإن العقل يساعد بقية القدرات في الذهن على إصدار الأحكام، أي أن العقل ليس مصدرًا للأحكام. وهنا نذكِّر بقياس التمثيل لهذه القدرة الذهنية، حيث قلنا إن العقل بمثابة الشرطي الذي يقبض على المتهم ويضعه داخل جدران المعتقل، وبهذا يكون قد أدى وظيفته. فالقضايا في المحاكم توكل إلى الهيئة القضائية، وفي قضايا التفكير توكل إلى بقية قدرات الذهن.

من ثم، فإن منهج التفكير العربي هو الذي يرسم النهج لكل تلك العمليات في الذهن، الأمر الذي جعلنا نقول -على سبيل المثال- إن الأسلوب الوصفي والتحليلي الذي يُجرى في مؤسسات التعليم، على ما يعرف بتدريس قواعد اللغة، يحتاج إلى مراجعة، لأن الإعراب الوصفي في قضايا الأحكام، والتحليلي، كلاهما أسلوب لا يقدم جديدًا. لذا قلنا إن عجزنا -نحن العرب- عن أن ننتج أفكارًا هو أننا لم ننتبه إلى أن الوصف والتحليل تحصيل حاصل (tautology)، وأن توجيه طلاب الدراسات العليا والبحوث إلى القول إنهم يستخدمون المنهج الوصفي والتحليلي، هو خطأ من جهتين؛ فكلاهما أسلوبان لا منهجان.

وإن الفكر، علاوة على أن أسلوب تناوله العربي القرآني هو “القراءة”، وأن أول أمر في القرآن قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، أي إن القراءة -ونحن نذكر بمفاهيم القراءة التي سبق أن ذكرناها- تكون باسم الله؛ أي الانفتاح على العلم والبحث فيه، وإن الإعراب الوصفي يتناول المفهوم لا المعنى. حتى إن مدرسي قواعد النحو يعترفون أن الإعراب فرع المعنى. فنحن إذًا لا نريد التوقف عند المفاهيم والأحكام المنطقية في الإعراب، بل أن ننفتح على المعنى.

وقد سبق أن ذكرنا الفرق في العربية بين السؤال والاستفهام؛ فالسؤال عن اسم المعنى، ونستخدم فيه أداة الاستفهام “ما”، مثل: ما الجمال؟، وهو سؤال فلسفي ولا يمكن تقديم تعريف له لأنه غير محدود وغير منطقي، بخلاف الاستفهام مثل: من الجميل؟، وقد أوضحنا دلالة النون في استفهام “من”، أي إنها تدل على الموجود بالذي هو موجود وقابل للفهم، في حين أن السؤال يفتحنا على الوجود الماهوي المطلق.

أي إن عملية الإعراب في اللغة تبقى محدودة، وإن اللغة هي وسيلة التعبير أو العبور، وهي دليل منهج التفكير لا المنهج نفسه. حتى هذا الإعراب المفهومي الوصفي يجب أن تتم معالجته. وكما ذكرنا، فإن فريقًا من المختصين في كل مجالات المعرفة يجب أن ينكبوا على دراسة العمليات التي تتم في الذهن. فلا يكفي أن نقول: جاء محمدٌ، أو رأيت عليًا، بالقول إن “جاء” فعل ماضٍ مبني على الفتح، وإن “محمدًا” فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة، أو أن “عليًا” مفعول به منصوب. وهذا صوريًّا يحتاج إلى الاستفهام عن سبب الرفع والنصب، مع أهمية دراسة إشارات الإعراب.

ولكن المختصين في وظائف المخ والأعصاب، ووظائف الأعضاء، وقوانين الفيزياء، والتفاعلات الكيميائية، هم الأقدر أن يكشفوا لنا لماذا الضم ولماذا النصب، أي فلسفة اللسان العربي ومنطق اللغة العربية أو الأحكام، كما هو القرآن: لسان عربي وحكم عربي.

زر الذهاب إلى الأعلى