مقالات الرأي

الاستعمار الحديث: الغزو الخفي لعالمنا العربي

بقلم/ محمود امجبر

لطالما اعتبر الاستعمار في وجدان الشعوب العربية على أنه غزو عسكري مباشر، تُحشد له الجيوش وتُقاد الدبابات، وترسم خرائط السيطرة بالقوة المسلحة. لكن المفاهيم التقليدية للاستعمار لم تعد قائمة كما كانت في الماضي، فقد تغيرت الأساليب، وأصبحت السيطرة على الدول تُنفّذ بخطط أكثر دهاءً وأقل وضوحًا، دون الحاجة إلى المدافع والاحتلال المباشر.

في عالم اليوم، لا يحتاج المستعمر إلى الاجتياح العسكري ليحكم، بل يكفيه ضرب الاقتصاد، ونشر الفساد المالي والأخلاقي، وزرع شبكات من العملاء الذين يخدمونه بطرق مباشرة وغير مباشرة. هؤلاء يُقدَّمون أحيانًا تحت مسميات براقة، مثل حقوق الإنسان أو المعارضة السياسية، والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني، لكنهم في الواقع ليسوا سوى أدوات لإضعاف الدول من الداخل، وتحقيق أهداف القوى التي تسعى إلى الاستحواذ على ثروات الأمة دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة.

إن الاحتلال الحديث لم يعد بحاجة إلى الجيوش، بل يكفيه التحكم في صناعة القرار السياسي من خلال اختيار الحكام، الذين يُنصَّبون وفقًا لمصالح القوى الكبرى، لا لخدمة شعوبهم، بل لتحقيق أهداف الخارج، التحكم في الإعلام أصبح جزءًا من هذه المنظومة، حيث يتم قلب الحقائق والتلاعب بالمعلومات، وإشعال الفتن بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد، مما يخلق حالة من الانقسامات المستمرة التي تُضعف بنية المجتمع وتجعله هشًا أمام التدخلات الأجنبية، لكن الأخطر من ذلك هو الاستخدام الممنهج للتكنولوجيا، حيث لم يعد الغزو العسكري هو الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير جذري في الدول المستهدفة، وبات التحكم في الأنظمة الرقمية، والبرمجيات المؤثرة، والإعلام الإلكتروني أدوات فعالة لتغيير العقائد والأيديولوجيات والسياسات، بحيث تتم تغذية طرف على حساب طرف آخر، وإعادة تشكيل الوعي العام بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية الجديدة.

المفارقة الكبرى هي أن المواطن العادي قد لا يشعر بتأثير هذا الاستعمار الجديد حتى يصبح جزءًا من المنظومة التي تحركه، دون أن يدرك أنه قد وقع في فخ. فهو لن يرى دبابات تجتاح بلاده، لكنه سيجد اقتصاده منهارًا، مجتمعه متفككًا، وهويته في حالة اضطراب، لقد نجحت القوى الاستعمارية في التغلغل في العواصم العربية دون إطلاق رصاصة واحدة، حيث بدأ الأمر بتهديد الحكام والرؤساء والملوك، ووصل إلى التأثير المباشر على قوت المواطن وأمنه واستقراره، والمشكلة الكبرى هي أننا لا نملك القدرة على التصدي لهذه المخططات طالما أننا متفرقون، منشغلون بصراعاتنا الداخلية، غافلون عن حقيقة الخطر الذي يُحيط بنا، لا يمكن التصدي لهذه المخططات إلا بإدراك أن الوطن ليس مجرد حدود جغرافية، بل هو إرث وهوية وقيم يجب الدفاع عنها بكل السبل، يجب أن ندرك أن الاقتصاد، الإعلام، التكنولوجيا، والتعليم كلها أدوات أصبحت تُستخدم في فرض الهيمنة، ولا يمكن لأي بلد أن يحافظ على سيادته دون وعي بهذه الحرب الخفية، فالمواجهة ليست مجرد رفض أو اعتراض، بل إعادة بناء الهوية الوطنية، وترسيخ الوعي الجماعي، والعمل بروح الغيرة والحرص والإيمان بأن الله والوطن خط أحمر لا يمكن تجاوزه أو التفريط فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى