المخيم الفلسطيني عصيٌّ على المحو والانكسار
بقلم/ محمد علوش
ويبقى المخيم الفلسطيني عصيًّا على المحو والانكسار، ويبقى شاهدًا وشهيدًا على جريمة النكبة المستمرة من سبعة وسبعين عامًا، تاه خلالها الشعب الفلسطيني في خيام اللجوء وفي المنافي القريبة والبعيدة، بعيدًا عن أرض وطنهم، فقد صمدوا ورسخوا هويتهم الوطنية والإنسانية وناضلوا وما زالوا من أجل حقهم المقدس بالعودة الى الديار التي شردوا منها منذ تلك الجريمة الإرهابية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بدعم مباشر من سلطة الانتداب البريطاني، القوة القائمة بالاستعمار والاحتلال الغاشم آنذاك.
لقد شكلت مخيمات اللاجئين عناوين للصمود بصفتها محطات مؤقتة على طريق العودة، ورغم كل هذا الانتماء العميق من أهل المخيم للمخيم، فما هو إلا دليل على إرادة هؤلاء الناس الذين عاهدوا من سبقوهم من الشهداء والمقهورين والمعذبين أن لا يرحلوا من هذه المخيمات رغم كل ما فيها من بؤس وقساوة الحياة وظروف القهر والحرمان إلا إلى ديارهم التي اقتلعوا منها، يربون الأجيال على ثقافة العودة وحق العودة، فإما العودة وإما العودة.
ولقد شكل تعبير “مخيمات اللاجئين” واحدًا من أكثر التعبيرات شيوعًا واستخدامًا كونها شاهدًا على النكبة واللجوء والثورة وغير ذلك من أشكال المعاناة والمقاومة، وقد أثارت مخيمات اللجوء العديد من الأسئلة حول مصير هذا المكان المؤقت والتحولات التي طرأت على حياة سكانه في التنظيم والخدمات والاهتمامات، وفيما إذا لم يزل المخيم يجسِّد حقَّ العودة في ظل هذه التحولات الكبرى داخله وخارجه.
تحاول إسرائيل دائمًا محو هذا الشاهد على جريمتهم التي أرادوا أن يكون ضحاياها شتاتًا ممزقًا وليس حضورًا مكثفًا، ومن هنا يأتي إصرار الاحتلال على التدمير الممنهج للمخيمات الفلسطينية في إطار رؤيته للقضاء على رمزية وهوية المخيم وصورته الماثلة أمام شعبنا وأمام العالم، بما في ذلك إنهاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في داخل المخيمات وفي خدمتها تجاه عموم اللاجئين وفقًا للقرار الأممي الذي حدد مهامه في خدمة اللاجئين إلى أن يتحقق حقهم بالعودة وفق القرار 194 وهذا الحق الثابت، الفردي والجماعي الذي لا يسقط بالتقادم.
من الواضح أن تفاوت رغبة تدمير المخيمات من حيث شدِّتها وأسبابها قاد لاحقًا إلى تفاوت في الوسائل والأساليب التي اتبعتها حكومات الاحتلال المتعاقبة لتحقيق هذه الرغبة، وقد انقلبت هذه الرغبة بسبب طول فترة الصراع إلى نقيضها، أي رغبة جميع الأطراف في وقت لاحق في بقاء المخيم، فبينما فشل الاحتلال في الدفع نحو التوطين، وخشية الضغط عليهم من أجل إعادة هؤلاء اللاجئين، فضلوا بقاء المخيم على نحو لا يشكل خطرًا أمنيًّا عليهم من خلال إستراتيجية استهداف متعددة الوسائل والأساليب وطويلة المدى، إلى أن وصل بالاحتلال ذروة هذا الجنون وما يقوم به من تدمير وتجريف وتفجير للمباني وبيوت اللاجئين في مخيمات الضفة الغربية تزامنًا مع الحرب العدوانية الشاملة المتواصلة في قطاع غزة والإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي بدعم متواصل وبلا حدود من قبل الإدارات الأمريكية – الديمقراطية والجمهورية – التي وقفت مع إسرائيل كشريك مكتمل الأركان، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل أن كيان الاحتلال ما هو إلا قاعدة استعمارية متقدمة في خدمة المصالح الأمريكية الإمبريالية.
الاحتلال يريد تحويل واقع المخيمات إلى جحيم وإلى أماكن غير قابلة للحياة، حيث يتعمد قصف وحرق منازل المواطنين وتدمير كافة البنى التحية وبشكل ممنهج، إلى جانب إجبار الآلاف من اللاجئين إلى النزوح من جديد، وهو ما يقوم به جيش الفاشية الإرهابي في هذه المرحلة في مخيم جنين منذ أكثر من مائة يوم، وما يقوم به في مخيم طولكرم وفي مخيم نور شمس، التي نعتبرها بداية مفتوحة على كل الاحتمالات نحو استمرار هذه السياسة العدوانية التي ربما ستتسع لتشمل كافة المخيمات الأخرى في الضفة الغربية.
إن الذاكرة الفلسطينية ما زالت تستعيد فصول النكبة التي قامت فيها الحركة الصهيونية وعصاباتها الفاشية بارتكاب المجازر الجماعية، واقتلعت وطردت وشردت شعبًا بأكمله من أرضه ووطنه، في أبشع جريمة تطهير عرقي عرفها التاريخ الحديث، والتي ما زال شعبنا يعيش آثارها ويتجرع مرارتها حتى يومنا هذا داخل الوطن وفي مخيمات اللجوء والشتات بعيدًا عن أرض وطننا فلسطين، وتأتي ذكرى النكبة هذا العام في ظل تواصل جرائم الاحتلال الإسرائيلي واستمرار مخططاته الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، ومحاولاته تقويض قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بدعم مباشر من الإدارة الأمريكية التي انتقلت من دور الوسيط المنحاز إلى دور الشريك مع الاحتلال، عبر مسلسل من الإجراءات والممارسات العدوانية والحصار المالي والخنق الاقتصادي، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر ما يسمى بحسم الصراع وإعلان الاحتلال عن البدء بسياسة الضم لأجزاء واسعة من الضفة وأسرلة الأغوار وشمال البحر الميت والتنكر لقرارات الشرعية الدولية التي تأتي في إطار الحرب الشاملة التي يشنها الاحتلال على شعبنا من قتل وحصار واعتقال ونهب للأرض والاستيطان، واستمرار سياسة الطرد والتهجير في ظل نوايا ومنطلقات حكومة المستوطنين الفاشيين العنصريين بزعامة نتنياهو التي تتكشف في ظل قوانينهم العنصرية وإجراءاتهم المتطرفة والعدوانية، وتواصل النهج الاحتلالي العنصري فيما يسمى بقانون المواطنة والولاء للدولة اليهودية وقانون “النكبة” الذي يستهدف أبناء شعبنا في الداخل وثقافتهم الوطنية وانتمائهم الفلسطيني الأصيل، إلى جانب التصعيد الإسرائيلي الهمجي على شعبنا ومواصلة انتهاج النوايا الحقيقية للاحتلال الذي يسعى إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين وتوسيع المستوطنات استكمالًا لفصول النكبة، ومحاولة قطع الطريق أمام قيام الدولة الفلسطينية بعد الإنجازات السياسية والدبلوماسية المهمة التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الفلسطينية واعترافات دول العالم المتتالية بالدولة الفلسطينية المستقلة.